Strong>بيار أبي صعبمنذ اللحظة الأولى، يحذّرك من أنه قد يعيد اختراع حياته، كأي شخص يروي سيرته الذاتيّة. ذلك هو إيليا سليمان الذي ينطلق فيلمه «الزمن الباقي» اليوم في بيروت، على شاشة «متروبوليس». لم يفعل في ثلاثيّته الأوتوبيوغرافيّة سوى إعادة «اختراع» الحكاية نفسها، في الأماكن نفسها أيضاً. حكاية أبيه وأمّه والأهل والجيران، والطفل ثم المراهق ثم الشاب الذي كان إياه، من وجهة نظر سينمائي ولد وكبر في فلسطين التاريخيّة، «مواطناً» في دولة احتلال، ولم يبق له سوى سلاح واحد هو السخريّة.
«الولد الصايع» لم تكن له أيّة علاقة بالفنّ السابع. الأخوة كلّهم احتلوا مراكز علميّة وأكاديميّة مرموقة، إلا إيليا الشقي الذي كان يثير هواجس أهل البلد: «مسكين فؤاد سليمان، تعب وربّى...». لكنّ فؤاد سليمان كان يردّد لصغيره: «افعل ما تحبّ». تلك الأيّام، كان إيليا بشَعره الطويل يعزف على الدرامز في فرقة هارد روك أسسها مع صحبه في الناصرة. ويستمع إلى «بينك فلويد» وليد زابلين. يتذكّر أنّه كان مولعاً بليونار كوهين و«البيتلز» أيضاً. أبوه أخذه إلى الطرب العربي، عرّفه إلى عبد الوهاب وأسمهان وليلى مراد ونور الهدى وآخرين سيسكنون أفلامه كتعويذة...
ولد في فلسطين التاريخيّة «مواطناً» تحت الاحتلال، ولم يجد له هناك سلاحاً إلا السخريّة
علاقته بالسينما كانت تقتصر على الذهاب إلى «سينماتيك حيفا»، «كي نلتقي البنات»... لكنّه تورّط بها لاحقاً. كان الناس في البلد يسألون: «طيب ماذا تريد أن تفعل بحياتك؟»، فيجيب: «سأكون سينمائيّاً». وصار أسير الكذبة. راح يلتهم كتب السينما التي يأتيه بها أخوه الأكبر من جامعة حيفا. كان يحفظ الأسماء، ويسجّل الأفلام بصبر على دفاتره. صار يعرف كل شيء عن أنطونيوني وغودار والآخرين... قبل أن يشاهد لقطة واحدة من أفلامهم. من أخيه أيضاً استعار كاميرا الفيديو الضخمة التي سترسم طريقه...
كان لإيليا صديق بدوي، يعيش في خيمة شَعر، وأبوه يرفض الانتقال إلى منزل في البلدة، تطبيقاً للقرار الذي فرضه الاحتلال على أهل الترحال. بعد الدراسة كان يسرح مع قطيع الماعز. راح إيليا يرافقه مع الكاميرا، وإذا به يحقق تمارينه التطبيقيّة الأولى: لقطات صامتة وثابتة على العنز وهي ترعى. بعدها اتخذ من عرس بدوي، في ربع الصديق نفسه، ذريعة لتصوير فيلم عن «بيت الشَعر الأخير». هكذا حقق نجاحه «السينمائي» الأوّل، وحاز إعجاب أهل العشيرة الذين جعلهم «يحبّون حياتهم». فرزوا له أرضاً، وطلبوا من والده تحويل اسمه إلى علي كي يزوّجوه إحدى بناتهم. لكن القدر شاء غير ذلك.
ذات يوم حضر عرض فيلم «متضامن» مع فلسطين، هو «وراء القضبان» ليوري بارباش، فهاجم بشدّة نظرته النمطيّة والسطحيّة إلى الناس وقضيّتهم. رئيس بلديّة الناصرة آنذاك، الشاعر الراحل توفيق زيّاد، لم يفهم سبب غضب ذلك الشاب الراديكالي الذي يحبّه. وعندما تكلّم المخرج، كان فوقيّاً وسخر من منتقديه وأوّلهم إيليا: «أنا فعلت ما عليّ، الآن عليكم أنتم ــــ خصوصاً الفتى الجالس هناك ــــ أن تفعلوا ما عليكم!». لم ينسَ صديقنا تلك المواجهة غير المتكافئة: «ليس عندي أي شعور بالثأر... لكنني أتمنّى أن ألتقي يوماً ذلك الرجل. سأقول له: تعال نتحاسب. ماذا فعلت أنت؟ وماذا فعلت أنا؟»...
ثم بدأ الترحال. لندن وباريس أوّلاً، بعد اعتقاله على يد سلطات الاحتلال. ثم نيويورك حيث بقي سنوات مهاجراً سريّاً يعمل في أشغال السخرة. هناك تبلور وعيه السياسي، وتكونت ثقافته، وبدأ يرتاد عالم الفنّ السابع. اكتشف مجازر «صبرا وشاتيلا» على التلفزيون... بعدها بسنوات سيحقق مع اللبناني الكندي جايس سلّوم فيلمه الاختباري الأوّل «مقدّمة لنهاية جدال». شاهده المنتج التونسي الراحل أحمد بهاء الدين عطيّة، فطلب من صاحبه فيلماً عن حرب الخليج الثانية، ضمن سلسلة شارك فيها سينمائيّون عرب. هكذا أبصر النور فيلمه القصير الثاني «تكريم بالقتل» (١٩٩١).
في عام ١٩٩٣ عاد إيليا إلى فلسطين، وتولّى تأسيس قسم للسينما في جامعة بيرزيت. أقام في القدس، وفي ذلك البيت صوّر لاحقاً فيلمه الروائي الأوّل «سجل اختفاء» (١٩٩٦) الذي أقام الدنيا ولم يقعدها. فيلم فلسطيني ليس فيه أبطال وخطب وطنيّة، بل يكتفي بالسخرية الصامتة. فاز بالجائزة الأولى في «البندقيّة»، وشبّه النقّاد إيليا بباستر كيتون، ومناخاته بسينما الفرنسي جاك تاتي.
أما في العالم العربي، في عزّ مرحلة أوسلو، فانقسمت الآراء حول الفيلم، وهوجم بشدّة، وأسيئت قراءته... واشتعل سجال حاد، لم يهدأ إلا بعد ظهور فيلمه الثاني «يد إلهيّة» (٢٠٠٢) الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم في «كان». اليوم بعد كل هذه السنوات، يرى المخرج الذي استقبل فيلمه الجديد «الزمن الباقي» بحفاوة عربيّاً، وحاز ثانية جوائز «أبو ظبي»، أن الجمهور نضج وتغيّر، وأن الأجيال الجديدة مهيّأة للتفاعل مع الخطاب غير الديماغوجي، والأشكال الفنيّة المغايرة.
خلال الإعداد لفيلمه «الزمن الباقي»، كان مسكوناً برعب السؤال: كيف أعود إلى عام ١٩٤٨؟
لم يحد إيليا سليمان منذ أواسط التسعينيات عن لغته وأسلوبه في السرد والتصوير والكتابة الفيلميّة: الحوارات قليلة، والمشاهد تتداعى وتتقاطع وتتكرّر تصاعدياً، والذاكرة الشخصيّة هي الإطار الدرامي، والسخرية المبطنة تفضح الأشياء من دون أي عظة أخلاقيّة، بكثير من الفانتازيا والشاعريّة. والسينمائي حاضر بصمت في أفلامه، يستعيد فصولاً من سيرته، وذاكرة المكان الذي احتضنه.
لعلّ السينما لديه وسيلة اقتصاص من العالم، وتجاوز الواقع العبثي بالحلول السحريّة والغرائبيّة. بالون أحمر عليه صورة ياسر عرفات يطير في سماء فلسطين محلّقاً فوق المسجد الأقصى. النينجا الخارقة تقضي بألعابها القتاليّة البهلوانيّة على جنود الاحتلال. السينمائي المحاصر في بلده لا يجد وسيلة لعبور جدار العار إلا بالقفز فوقه بمساعدة العصا الطويلة، كما في مباريات القفز العالي... هذا المشهد بات يختصر «الزمن الباقي» الذي عرض الربيع الماضي في المسابقة الرسميّة لـ«مهرجان كان»، بعدما شارك إيليا في لجنة تحكيمه الدوليّة (٢٠٠٦)، ثم حقق فيلماً قصيراً في ستينيّته، بعنوان «ارتباك» (٢٠٠٧)، ضمن مشروع شاركت فيه مجموعة من المخرجين العالميين.
خلال الإعداد لـ«الزمن الباقي» كان مسكوناً برعب السؤال: كيف أعود إلى عام ١٩٤٨؟ كيف أحكي عن تلك المرحلة التي لا أعرفها؟ أعاد قراءة ملاحظات والده عن سنوات النكبة، واستعاد قصصاً حقيقية من الذين عايشوها. يحكي لنا كيف صوّر في أماكن وقوع الأحداث، وكيف مثّلت خالته، هذه المرّة، دور أمّه الراحلة. السينمائي المستقرّ في باريس لم يعد متحمّساً لزيارة الناصرة منذ رحيل والديه. صار يجد صعوبة في دخول بيته العائلي. نسأله إذا كان سيحقّق ذات يوم فيلماً لا علاقة له بفلسطين «لم لا؟ قد أحكي عن تجربة أخرى، مرتبطة بمكان آخر»... ثم يستدرك بعد لحظة شرود: «بتعرف؟
حتى لو رحت أشتغل فيلم عن الغوريلا، بتطلع غوريلا فلسطينيّة. أينما ذهبت تحمل معك حكايتك في النهاية».


5 تواريخ

١٩٦٠
الولادة في الناصرة (فلسطين)

١٩٧٨
اعتقاله على يد سلطات الاحتلال، ثم السفر إلى لندن وباريس. أقام في نيويورك 12 عاماً، ابتداء من ١٩٨١

١٩٩٠
فيلمه الأول «مقدّمة لنهاية جدال»، حاز جائزة أفضل فيلم تجريبي في «مهرجان أتلانتا». تبعه «تكريم بالقتل» ضمن سلسلة نظرات عربيّة إلى حرب الخليج الثانية

١٩٩٦
باكورته الروائيّة الطويلة «سجل اختفاء»، حازت الكاميرا الذهبيّة في «مهرجان البندقيّة». وكان لا بدّ من الانتظار ٦ سنوات كي ينجز فيلمه الطويل الثاني «يد إلهيّة» الذي حاز جائزة لجنة التحكيم في «كان»

٢٠١٠
«الزمن الباقي» الذي يُعَدّ الحلقة الأخيرة من ثلاثيته الأوتوبيوغرافيّة، يعرض ابتداءً من اليوم في بيروت في «متروبوليس/ أمبير/ صوفيل» ــــ للاستعلام: 01/204080