يبدو أن عناد البحر لم يدم طويلاً. ففي مساء اليوم الثالث لكارثة الطائرة الإثيوبية، كشف سره، وتم تحديد موقع الطائرة المنكوبة والصندوق الأسود، مقابل مطار رفيق الحريري الدولي

راجانا حمية
أخيراً، في اليوم الثالث لكارثة الطائرة الإثيوبيّة، الذي كان في نهاره البحر «ناشفاً»، تمكن الجيش اللبناني من تحديد موقع الطائرة والصندوق الأسود على بعد 8 كيلومترات وعمق 1300 متر مقابل مطار رفيق الحريري الدولي، بحسب الوكالة الوطنيّة، فيما نقلت رويترز عن مصدر أمني أن سفينة أميركيّة حدّدت مكان الصندوقين الأسودين في المنطقة المذكورة آنفاً.
وفي انتظار الخطوات التالية، فقد مَثّل تحديد الموقع بداية خيط، ولا سيما في شأن الركاب. فيما كان لـ «عودة» الجثث إلى أهاليها حكاية أخرى:
كسر الصوت الآتي من غرفة الموت في مستشفى بيروت الحكومي الصمت القاتل في الباحة. كانت لحظته حقيقية لتأكيد موتٍ كان حتى أول من أمس خبراً من دون جسد.
أمس، أمام باب الغرفة المغلقة على 13 جثة، خرج الصوت من فمٍ غريبٍ، يعلن «خروج الضحية الأولى لهذا اليوم». لم يكد رجل الأمن ينطق باسم الضحية، حيدر مرجي، حتى سُدّ الباب بالمتفرّجين والإعلاميين، فهي اللحظة التي سيرون فيها الموت وجهاً لوجه، متخذاً أسماء أشخاص كانوا حتى ليل أول من أمس أرقاماً في غرفة الانتظار. وحدها عائلة مرجي لم تكن واقفة أمام ذاك الباب. كانت في الداخل ترقب خروج ابنها من ثلاجته.
يخفت صوت المنادي. يحلّ صمت مفاجئ وثقيل. تمرّ بضع دقائق، لا تُسمع خلالها سوى الأنفاس اللاهثة. في لحظةٍ ما، ينقلب كلّ شيء. يعلو الصراخ المفجع، مترافقاً مع صوت الغريب مجدداً «وحّدوه»، فتلاقيه الأفواه «لا إله إلا هو». يخرج مرجي من ثلاجته، محمولاً على الأكتاف. يخرج مسرعاً من باب الغرفة التي رقد فيها 3 أيام إلى باب الإسعاف التي ستقلّه إلى رقاده الأبدي. كان خروجه موجعاً. لكنه وجع عابر للمشاهدين الأغراب، ما لبث أن تلاشى بمغادرة سيارة الإسعاف به إلى حسينية منطقة الشيّاح، حيث ينتظره أقاربه.
يرحل مرجي. تتلاشى قصّته هنا أمام باب غرفة الموت. تحلّ مكانها قصّة الشاب الآخر الذي سيخرج أيضاً من انتظاره: أنيس مصطفى صفا. تعود النظرات إلى الباب المفتوح على كل الاحتمالات... فقد يخرج هو وقد يخرج جسد له اسم آخر. لا أحد هناك يعرف هوية الخارج إلى أهله، ولكن صوت المنادي سيحدّد من هو. يخرج الصوت قوياً «أين هي عائلة صفا». تعلو الأصوات: «خلص، هيدا أنيس صفا اللي طالع».
«طلع» صفا. الصندوق الخشبي الحزين نفسه والتأبين أيضاً والعبور السريع نفسه.
اثنان خرجا. ثمة ثلاثة آخرون قال وزير الصحة العامة محمد جواد خليفة إنهم سيخرجون أيضاً، لأن نتائج فحوص الحمض النووي أثبتت هويتهم. الباقون هم جوليا الحاج وطوني الزاخم والطفل حسن كريك.
تعود العيون إلى الباب. تحاول جاهدة التقاط ظل صندوق خشبي آخر تأخّر في الخروج. لكن لا جواب ولا منادي. قد لا يخرج أحد. يتسلل اليأس إلى الواقفين، قبل أن يعود الصوت منادياً «وحّدوه». يخرج الجسد الثالث طوني الزاخم بعد نحو ساعة من الانتظار، وبعد التأكيدات المتكررة من الطبيب الشرعي أحمد المقداد وخليفة أن «عائلته أجّلت تسلّم الجثمان إلى الغد (اليوم)».
بقيت جوليا وحسن. الصغيران لن يخرجا. فعائلة حسن لا تزال مصرة على إبقائه في ثلاجته إلى حين إيجاد والده. وقد رضخت المستشفى للأمر الواقع. أما جوليا فقصتها لم تتّضح. ففي الوقت الذي أصرّ فيه البعض، ومنهم النائب علي بزي الذي حضر أمس مرافقاً العائلة، على أن «عائلة جوليا تنتظر أيضاً إيجاد والديها»، انحرف أحد جيران الصغيرة عن مسار الحديث السائد ليقول «إن السبب هو الخلاف بين عائلتي والدي جوليا، فكل واحدة منها تصر على أحقيتها بدفن الطفلة في جبانتها». لكن، يبدو أن الأمور تحلحلت. إذ أشار الدكتور مقداد في اتصال مع «الأخبار» مساء أمس أن الطفلة ستسلم إلى ذويها، الثامنة من صباح اليوم.
سيبقى حسن إذاً. لكنه، لن يكون وحيداً، فثمّة أجساد أخرى هناك، مع فارقٍ بسيط، أنها أجساد تنتظر نتائج فحوص الحمض النووي التي «يمكن أن تصدر في أيّة لحظة»، يقول المقداد.
هكذا، مرّ عصر أمس أمام مشرحة مستشفى بيروت الحكومي. كان الانتظار سيّد الموقف. أما ما قبل ذلك العصر، فكان مغايراً تماماً للصخب الذي رافق خروج الجثث من غرفها الطارئة. كان نهاراً هادئاً. لا صراخ ولا أنين... ولا سواد ولا مفجوعين. انسحبوا إلى بيوتهم، تاركين زواياهم للصحافيين الذين قضوا النهار بين جولات التسكّع وحلقات التحليلات. خلت الساحة لهم. حتى السياسيون الذين حضروا بكثافة أول من أمس غاب طيفهم أمس، باستثناء النائب علي بزي والوزير خليفة.
ثمة مشهد وحيد لم يتغيّر أمس، وهو مشهد الإثيوبيات المتشحات بالسواد. كنّ كما عادتهن، متجمعات في زاوية واحدة، بعيداً عن أعين المتطفلين. وجوههن العابقة بالحزن كانت تعيد إلى الداخلين الشعور بالموت. لكن، رغم هذا الحزن، لم تبِن الدموع في عيونهنّ، ربما كما تقول إحداهن، رافضة الكشف عن اسمها، لأنه «مش بلدنا، ما رح يفهمونا إذا بكينا.. يللا بنخليهن لنروح على بلدنا»، تقول ريتا داني.
ومن باب المستشفى انتقل حيدر مرجي وأنيس صفا في رحلتهما الأخيرة الى مسقط رأسيهما، زبدين، حيث يشيعيان اليوم. بذلك، تكون البلدة قد استكملت كامل حصتها من ضحايا الطائرة، فيما لا تزال بلدات لبنانية أخرى على موعد مع رحلات وداع كثيرة ستنطلق في الأيام والأسابيع المقبلة.
وبقدر هول المصيبة بفقدان الحاج حيدر مرجي، فإن قلب شقيقه مهدي كان ليل أمس أكثر طمأنينة، لكونه يجلس إلى جانب جثمانه في حسينية الشياح. وصل الجثمان قرابة الرابعة والنصف، وبعدما غُسِّل وكُفِّن، نُقل إلى الحسينية. وتردد أن زوجته ستحضر في وقت متأخر من الليل إلى الحسينية لإلقاء نظرة الوداع على رفيق عمرها.
أما بالنسبة إلى مهدي، فإن الموضوع لم يكن يستأهل فحوص الحمض النووي، لأنه تعرف إلى وجه شقيقه الذي لم يتشوه، فالإصابة هي في الجانب الأيمن من الصدر، لكن العائلة رضخت لقرار وزارة الصحة.


خليفة: لا جثث جديدة

أكد وزير الصحة محمد جواد خليفة «أن فحوص مختبر الأدلة الجنائية ومختبر وزارة الصحة أكدت تطابق فحص الحمض النووي للجثث الخمس التي سُلّمت ثلاث منها أمس». ولفت خليفة إلى أن «من المفترض اليوم أن تصدر نتائج فحوص الحمض النووي لثلاث جثث لم يتم التعرف عليها». أما بالنسبة إلى الأشلاء، فأوضح «أنه تم توثيقها حسب الرموز لأن العلاقة معها جنائية وليست صحية، وسوف نتخذ قراراً مع المعنيين لوضعهم تحت إشراف لجنة موحدة». من جهة أخرى، أعلن خليفة أن «المستشفى لم يتسلم أمس أية جثة من فرق الإنقاذ».


العلاج النفسي

بعد شيوع نبأ الكارثة الجويّة، اتّخذت وزارة الصحة العامة قراراً بإنشاء خلية للعلاج النفسي في مستشفى بيروت الحكومي الذي يؤوي أجساد الضحايا. كان متوقّعاً أن «الألم النفسي للأهالي سيكون قاسياً»، يقول رئيس القسم النفسي في المستشفى الدكتور صلاح عصفور. لهذا السبب، كوّن الدكتور خليته على عجل، فضمت بالإضافة إليه، الدكتور أحمد عياش وعدداً من المعالجين النفسيين. كانت المهمة صعبة أمام الفريق، فأهالي الضحايا لم يكونوا قد تقبلوا بعد فكرة خسارة أحبائهم، لذلك لم «يشغّلوا غرف الدردشة» في بادئ الأمر، مكتفين بالجولات معهم في باحة المستشفى. وفي هذا الإطار، يردّ الدكتور عصفور هذا الأمر إلى أن «الأهالي كانوا بحاجة للبقاء أمام المشرحة لإحساسهم بالقرب من جثث أبنائهم». أمس، بعد مرور أيام على الكارثة، باتت الصورة أوضح أمام فريق العمل، فالأهالي بدأوا بقصد تلك الغرفة للحديث عن أحبتهم، وربما مع الوقت سيكثرون.


لجنة مشتركة لبنانية ــ إثيوبية

قام وفد إثيوبي ضم وزراء الخارجية سيوم مسفين، والسياحة محمود ديرير، والاتصالات والمواصلات دريبا ليما بزيارة الرئيس ميشال سليمان في قصر بعبدا، وسلّمه رسالة من نظيره الإثيوبي ورئيس الحكومة تتضمن تقديم التعازي والتضامن مع الشعب اللبناني.
وبحث خلال اللقاء إنشاء لجنة مشتركة لبنانية ـــــ إثيوبية، من أجل التوصل إلى تحديد أسباب سقوط الطائرة والكارثة التي نتجت منها. وشكر الوفد لرئيس الجمهورية متابعته الشخصية للموضوع، ناقلاً التقدير إلى الأجهزة والهيئات اللبنانية التي استنفرت كل طاقتها وتعمل على مدار الساعة في سبيل إنجاز عملية انتشال المفقودين.
من جهته، حمّل الرئيس سليمان الوفد تعازيه إلى الرئيس الإثيوبي والمسؤولين، لافتاً إلى أن الدولة اللبنانية بكل أجهزتها تتابع الخطوات اللازمة لانتشال المفقودين أولاً وجلاء أسباب الحادثة ثانياً. وكان الوفد قد زار أيضاً وزير الداخلية زياد بارود والخارجية علي الشامي.