بين البيت والبحر، تعيش عائلة فؤاد وعباس جابر ألم الانتظار. البيت مفتوح على الحزن «المطلق» قبل أن يقول البحر كلمته. سيحلّ العيد عندما تستعيد العائلة جثّتي الشقيقين الفقيدين لتدفنهما إلى جوار أمّهما
كامل جابر
يسكن الضياع عائلة الشقيقين فؤاد وعباس محمد جابر، فيتوه أفرادها بين منزل العائلة في النبطية، حيث تقبل التعازي، وشاطئ البحر، الذي غرقت الطائرة الإثيوبية في أعماقه.
بين البيت والبحر، مساحات من الحزن والقلق والخوف والحنين. فقد مرّ أسبوع على فقدان الشابّين والعشرات من ركاب الطائرة الإثيوبية، ولا شيء يخفّف من وطأة «الرعب» من عدم استعادة جثّتيهما.
وحدها الورود المفعمة برسائل الشوق والحزن، التي تلقيها العائلة في الماء، قد تخفّف بعض الأسى الذي يعتري النفوس. لكنّ الذهاب إلى الشاطئ المحاذي للبحر بات مظهراً من العلاقة مع الغائب، «في انتظار عودته، وحتماً سيعود، ولن يهدأ لي بال قبل أن يعود»، تقول سلافة مغربل، زوجة فؤاد.
قبل ساعات قليلة من ركوبه الطائرة، أمسك فؤاد بيد سلافة وسارا عند شاطئ صيدا، رغم رذاذ المطر الذي كان يصبّ فوق رأسَيهما، كأنه أراد أن يترك لزوجته ذكرى جميلة. لطالما كان الشاب منهمكاً في أعماله، بين السفر وبعض الإجازات التي يخصّصها لأبنائه، الذين يكبرون في غيابه: «كاتي صار عمرها 17 عاماً، عباس 16 عاماً والطفل جواد ثلاث سنوات». من أجل ذلك، تذهب سلافة لتخاطب زوجها قرب الشاطئ. تقول: «أنا حكيت معو عالبحر، وصّلتلو حكي كتير وقلتلو: بس تعا لعندي، هو إجا لعندي بالمنام مرة وما فهمت عليه شو كان بدو يقول، أو شو بدو مني. عالبحر كنت ناطرة يحكيني ويرد عليّ؛ قلت له بس قلّ لي وَينَك؟ إن شاء الله بيجي وبيقول وينو».
تقول إيمان، الشقيقة الكبرى لفؤاد وعباس، وقد بحّ صوتها من كثرة البكاء والصراخ: «عم بنزل عالبحر، حتى لاقي إخواتي. ضوّيت الشمعات ورميت الوردات بالمي يمكن يوصلوا لإخواتي، وقلت للبحر يا كبير رجّع لي ياهن، رجع حبايبنا يا بحر. حكيت معو، وناديت باسميهما: يا فؤاد ويا عباس، وما سمعوني».
في البحر، رمت إيمان خمسة بالونات «على كل واحد سجلتُ اسم ولد من أولادهما الأطفال، لعلّهما إذا شاهداها، يدركان أن أطفالهما بانتظارهما، عند الشاطئ. مش بس ولادهم ناطرينهم، العيلة كلها ورح نبقى ناطرينهم كل العمر، رح نبقى كل يوم نروح عالبحر وننطرهم هونيك».
أريد أن أدفن زوجي وأكرّمه كي يبرد قلبي
تروي إيمان تفاصيل اللحظات الأخيرة التي سبقت صعود الشقيقين إلى الطائرة فتقول: «كان أبي والزوجتان والأولاد معنا». تختنق بالبكاء حين تتذكر كيف اشترى عباس قبل أن يسافر باقة ورد، وطلب منها أن تضعها على قبر أمّه، وتقول لها إنّ الباقة من عباس.
عندما كان الشاب يدنو من المطار قال لشقيقته إنّه يشعر بأنّ قلبه مقبوض، فسألته: «لماذا يا أخي، هل هذه هي المرة الأولى التي تسافر فيها؟ فأجابها: «مش عارف». عندما وصلت العائلة إلى المطار لوداع الشقيقين، التقط عباس قميصه من جهة قلبه، وكرّر أن قلبه مقبوض فماذا يفعل؟ قالت له إيمان: «أخبر أخاك وعودا». لكنّ عباس أبلغها أنّ «فؤاد لن يوافق على هذا الطرح، ولن أتركه يسافر وحده». تتابع إيمان روايتها: «وقف الاثنان وبقيا يودعاننا ولم يدخلا، خرجنا وهما يلوّحان بأيديهما صرنا كلنا نمشي نحو الخلف، وكان الوداع الأخير».
تلفت إيمان إلى أنّ فؤاد وعباس لا يسافران في العادة معاً، لكن وفاة والدتهما المفاجئ اضطرّتهما إلى ذلك. فبعد ذكرى الأسبوع، اتفق الأشقاء الأربعة على أن يبقى اثنان منهم هنا، ويسافر اثنان، فبقي فؤاد وعباس إلى جانب والدهما حتى حلول ذكرى الأربعين. ثم قرر الشقيقان السفر، فزارا قبر أمّهما قبل أن تسرقهما الطائرة المشؤومة. هنا تقول إيمان: «أخذت الوردات على قبر ماما وقلت لها هيدي صور إخواتي. ناطرينهم لندفنهم حدك».
لن يهدأ بال العائلة قبل مواراة الشقيقين في الثرى. تشرح إيمان بمرارة كيف «حجزنا لهما قبرين قرب قبر أمنا، وسيكون لدينا عيد عندما نستعيد جثتيهما». وتسأل: «هل صار عندنا مثلث برمودا؟ أين الحقيقة في كل ما جرى؟».
تتحدث هيفاء، شقيقة الشابين، كيف شعرت خلال تشييع قريبها، علي أحمد جابر، الذي كان هو أيضاً ضحية الطائرة الإثيوبية، «بأنّ أخوَيها ماتا فعلاً. قبل ذلك كانت لا تزال تعتقد أن شقيقيها لم يموتا». تجزم «أننا لن نقيم الفاتحة، أو ذكرى أسبوع أو عزاء حتى يُحضروا لنا جثّتي الضحيّتين، وسنبقى جالسين في انتظارهما ولو بعد سنة. نحن لا يهمنا، لا الصندوق الأحمر ولا الأسود ولا الأصفر ولا الأخضر، ولا أي شيء آخر، ولا كيف راحت الطيارة ولا شو صار، المطلوب أن يسلّمونا جثّتي شقيقَينا، وليبحثوا بعدها عما يريدون».
تستغرب الأخت المفجوعة «التهليل الذي جرى للأسطول الأميركي، كأنه أتى «ليشيل الزير من البير»؛ لماذا أتوا وماذا فعلوا؟ هذا ما نريد أن نعرفه. إذا كان همهم الصندوق وحقيقة ما جرى للطائرة، فليس هذا المهم بالنسبة إلينا. الأهم إحضار الجثّتين من قاع البحر، حتى نقوم بالواجب المطلوب». وتردف: "أعصابنا انهارت، نفسيّاتنا تعبت، لم يعد باستطاعتنا تناول المزيد من المهدّئات. نحن نسأل إذا أتوا بشقيقيّ الآن، كيف سنزفّهما ونحن في هذا الوضع».
وتأسف هيفاء لأن يكون ما عُثر عليه من بقايا المقاعد هو ما لفظه البحر، «ولم يكن بجهد أحد. هنّي ما طلعوا بشي حتى الآن. 90 جثة كانت تحت الماء كم استعادوا منها حتى الآن؟».
كل ما تطلبه زوجة فؤاد «هو أن أَدفن زوجي وأكرّمه، كي يبرد قلبي». ترفض، كما تقول، الكذب، كل الأخبار المتناقضة.
تشعر بأن المسؤولية التي ستتحملها كبيرة، لكن ما يعزّيها أنّها تفعل ذلك من أجل فؤاد، لأنه كان رجلاً نقياً طاهراً، وكل الناس يعرفون ذلك. كرمال زوجي حبيب قلبي، بدي قوّي حالي وأهتم بأولادي».
ترفض سلافة فكرة عدم الحصول على جثة زوجها. تسأل: «هل يستطيع هؤلاء الكبار، أصحاب المراكز المهمة في الدولة اللبنانية أن يضعوا أنفسهم مكاننا، ويشعروا بما نشعر، لو أن الجثث لهم أيتركونها في البحر؟ أو يتركون أنفسهم أسرى الغموض؟».
وسط هذا الجوّ المثقل بالحزن، يروح الطفل جواد (3 سنوات) ويجيء، يحمل بين الحين والآخر صورة والده، أو الصورة التي تجمع والده وعمه في إطار واحد. كأن هذا الطفل يفهم ما يدور من حزن في البيت، يرد على أسئلة عمّاته والجيران «بابا راح عالغابون، بابا وقع بالبحر، انكسرت الطيارة فيه ووقع وقعدت ماما وصارت تبكي. كمان إيمان وماما صاروا يبكو ويصرخو. قبل ما يروح باسني كتير وبستو كمان عالطاير وقلتلو باي وصار يعملي باي. بدي بابا يجي ويجبلي بيسيكلات».
مأساة عائلة فؤاد وعباس جابر نموذج للمعاناة الذي تعيشه عائلات المفقودين في البحر، هذه العائلات التي ترفض فكرة عدم استعادة الجثث. فمنذ يومين دفنت عائلة علي أحمد جابر جثته، وأقامت مراسم العزاء؛ لكن ثمة تسع جثث لم تُستعد بعد، في النبطية ومنطقتها، وبيوت هذه العائلات مفتوحة على الحزن «المطلق» مثلما هي مفتوحة على القلق و«التشاؤم».


عائلة الحاج علي تنتظر «حكم ربنا»

ترفض والدة المفقود علي الحاج علي (الصورة) من النبطية، تقبّل فكرة أن ابنها حسين قضى في البحر، فهي حتى اليوم لم ترَ الجثة، التي تؤكّد لها «المقدّر»، يقول ابنها محمد.
يضيف: «الشباب سيتقبّلون الوضع إذا وصلوا إلى المستحيل، لكنّ والدتي لن تفعل ذلك، فهي تعيش على أمل أنه لا يزال حياً، تتقبّل التعازي بحذر، تحاول أن تواسي نفسها بالتفاف الناس حولنا».
يشير إلى «أننا قلنا لها لم نحفر له قبراً، ما هدّأ من روعها أمر الحسم بوفاته، لا تريد أيّ علامة تشير إلى أن شقيقي قد مات، إلّا إذا رأت الجثة أمامها».
ويقول: «ننتظر اليوم حكم ربنا، وما رأيناه في اليوم الأول لجهة عدم التنسيق لا يبشّر بالخير، فنحن متروكون، ليس هناك من يحتضننا، من الدولة وغير الدولة، ويأخذنا أو يدلّنا على ما قد يخفف عنا». يلفت إلى «أننا قرّرنا متابعة الأحداث مثل أيّ إنسان في هذا البلد، وإن كنا أصحاب العزاء، ربما الناس يسمعون أكثر منّا. ننتظر ما تبثّه نشرات الأخبار».