دينا حشمتيعيش اليوم في حي المقطّم، في أعالي القاهرة. لكن يصعب على المرء أن يقبل فكرة أنّه لم يعد يعيش في إمبابة. هذا الحي الشعبي الذي خلّده، عالماً زاخراً بالحيويّة، بنيله وناسه، في «مالك الحزين» أشهر رواياته (حوّلها داوود عبد السيد إلى فيلم «الكيت كات»)، كيف لنا أن نتخيّل أنّه تركه؟ لقد تماهى مع المكان: إمبابة إلهامه، مهمّته في الحياة. «عصافير النيل» روايته الثانية التي نقلها مجدي أحمد علي على الشاشة (الفيلم قُدّم في «مهرجان دبي السينمائي» الأخير)، تحكي ذاكرة المكان نفسه. في «حكايات من فضل الله عثمان»، يسرد «مشاهد جانبية» من إمبابة: «أنزع الآن عن إمبابة/ كما تنزع قطعة لحاء جافّة/ وإن كانت حية/ عن جذعها الطري». هكذا استهل أحد كتبه الأخيرة «شيء من هذا القبيل».
صاحب «مالك الحزين» ينتظر صدور كتابه الجديد «حجرتان وصالة» خلال أيام. عامل البريد الذي حوّل تجربته إلى كتابة، ما زال يتجنّب الاجتماعيات الثقافية الصاخبة. ويكتب عن الشيخوخة بالحنان نفسه الذي كتب به عن حي «إمبابة»، بناسها ونيلها.
على مشارف الخامسة والسبعين، ما زال إبراهيم أصلان محافظاً على الصورة التي نعرفها عنه، على الصدق والعفويّة الشعبيّة والبساطة، على تلك الأناقة البسيطة التي تخصّه وحده. ترك «هيئة التلغرافات» عام 1992 ليعمل في جريدة «الحياة» (مكتب القاهرة) مسؤولاً عن الصفحة الثقافيّة، لكنه لا يزال يشعر بشيء من إيقاع موظّف البريد. ولا يزال متمرداً ذلك التمرد الهادئ. يحاول قدر الإمكان تجنّب المحافل الثقافية الصاخبة. لم يظهر في «مؤتمر القصة القصيرة» الأخير، رغم أنه عضو لجنتها في «المجلس الأعلى للثقافة»... وليس متأكداً حتى الآن من أنه سيحضر «معرض القاهرة للكتاب» المقام حالياً.
إبراهيم أصلان ابن موظف بسيط في البريد. ولد في طنطا، في الدلتا، وترعرع في العاصمة، بعد نقل أبيه إلى القاهرة. كانت الأسرة تسكن شقةً صغيرة في شارع عمودي على كورنيش إمبابة. هناك، بنى أصلان علاقة يومية بالنهر: «اغسل/ لَكَمْ عببت من مياهه الفوّارة، وطميه الثقيل. اغسل. لكم غرقت فيه عارياً. ولكم أخذك التيار»، يقول يوسف النجار في «مالك الحزين»، معبّراً عن حنينه إلى ماضي نهر لم يعد كما كان. ثم يغسل في النيل جرحاً أحدثته قنبلة رمتها الشرطة عند قمعها تظاهرات 1977. هل شارك بالفعل في «انتفاضة الخبز»؟ «طبعاً». لو سألنا إذا كان هذا المشهد أو ذاك من قصصه «حقيقياً»، يردّ بنعم، من دون تردّد... ومن دون مناقشة سمات كتابة السيرة الذاتية.
وإذا جازفنا بالسؤال: يمكننا القول إن هناك أوجه شبه كثيرة بين يوسف النجار وإبراهيم أصلان؟ يرد أيضاً بنعم. فهو الآخر ممزّق بين المدينة الكبيرة الحديثة، وفضاء الذاكرة والانتماء الأول... بين القاهرة وإمبابة. لا يشعر بالارتياح الكامل في أيّ من المكانين. «اللي كتبته في «مالك الحزين» حقيقي. كتبنا بيانات أيام الاعتصام في ميدان التحرير، في عام 1972. كنت أشعر بالخجل، ولما الميدان كله غنّى «بلادي بلادي»، ما بقيتش عارف أقول. كان عندي الإحساس الغريب ده، بأني برّه».
أصدقاؤه يساريون، لكنّه لم ينخرط في أيّ تنظيم ماركسي. «مواقفي تطابقت مع مواقف الجماعات اليسارية، لكني لا أعرف أن أكون واحداً ضمن فريق يردّد شيئاً واحداً». لا يحبّ الاجتماعيات عموماً. في عام 1971، لدى صدور مجموعته القصصية الأولى «بحيرة المساء»، نُظّمت مناقشة في مقر «كتاب الغد»، لكن إبراهيم أصلان لم يحضر. فضّل أن يقضي السهرة مع صديقه الشاعر الراحل أمل دنقل في لعب الطاولة.
منذ طفولته، يفضّل القراءة: «كل كلمة جديدة كانت اكتشافاً بالنسبة إليّ: القرآن، دلائل الخيرات، نسخة أصلية من «ألف ليلة وليلة»: تلك الكتب الثلاثة التي كانت متوافرة في البيت». اندهش أبواه. لم يفهما ميله إلى العزلة وشغفه بالكتب على رغم فشله في الدراسة. لم يُريدا التخلّي عن تعليمه، وخصوصاً أنه كان الابن البكر، فالتحق ـــــ بعد الكتاب والابتدائية ـــــ بمدرسة لإعداد المعلمين لمدة عام، ثم بمدرسة خاصة لتصميم السجاد وتنفيذه، وأخيراً بمدرسة داخلية عسكرية لمدة سنتين. وبعد إغلاقها مع استيلاء الضبّاط الأحرار على السلطة عام 1952، وجد إبراهيم أصلان نفسه في مدرسة صناعية أهلية. «لكن الشهادة الوحيدة اللي قدرت انتزعها هي الابتدائية»، يحكي ضاحكاً: «فقالوا مفيش فايدة». هكذا، التحق إبراهيم أصلان بهيئة البريد. كان ذلك عام 1953. انفتح أمامه عالم جديد، عالم موظفي التلغراف؛ تلك التجربة حوّلها إلى نص مشذّب في رائعته «وردية ليل».
في البريد، اكتشف أنه شخص «مسؤول. أنا أعمل منذ عمر الـ 18 سنة. أنا ما أقدرش أقعد في بيتنا وآخذ منحة تفرغ». عندما حصل على إحدى تلك المنح، في عام 1972، بعد مبادرة من نجيب محفوظ ولطيفة الزيات اللذين «اكتشفا مصادفةً أنّني أعمل في الليل»، لم ينجح في الكتابة. لم يكن يريد أن يجبر نفسه على الإنتاج، فعاد إلى البريد. هناك تعرّف إلى زوجته. «كانت زوجتي زميلتي. أنا عايش في حيّ شعبي. لازم زوجة بنت بلد، تبقى مستعدة تنزل تجيب مية لو مقطوعة، حتى لو متعلّمة».
اليوم، أصبح كاتباً مرموقاً حصل على «جائزة الدولة التقديرية في الآداب» عام 2003، و«جائزة نجيب ساويرس للرواية» عام 2006، وتُرجمت أعماله إلى لغات عدّة. ترك إمبابة لكنه لم يترك شقته فيها. يعود إليها من وقت إلى آخر، إلى كتبه، وإلهامه. يقضي وقتا طويلاً مع ابنَيه وحفيدته. آخر كتبه «حجرتان وصالة» عن الشيخوخة. رصد بلغته الخاصة التي تستخدم مفردات العامية، تفاصيل الحياة اليومية لرجل وامرأة عجوزين، رصدها بحواسّه المرهفة ولغته المقتصدة. «الكتابة حرفة» يقول، «ما زلت في حاجة إلى أن أنمّيها كل يوم»، ليجعلنا ننتظر بشغف أكبر إنتاجاته المقبلة.


5 تواريخ

1935
الولادة في طنطا (مصر)

1971

صدور باكورته القصصية «بحيرة المساء»

1983
رواية «مالك الحزين» التي أخذ عنها داوود عبد السيد فيلم «الكيت كات»

1992
مسؤول صفحات الثقافة في «الحياة»، مكتب القاهرة.

2010
العام الماضي نقل مجدي أحمد علي روايته «عصافير النيل» إلى الشاشة، وعرض الفيلم الذي حمل العنوان نفسه في «مهرجان دبي» الأخير. ينتظر صدور آخر كتبه «حجرتان وصالة».