مرّ أسبوع على كارثة الطائرة، ورغم ذلك لم تتمكّن الإثيوبيّات في لبنان من الالتقاء في فرصة للطمأنينة والمواساة والتفكير بصوت عالٍ. انتظرنَ أسبوعاً ليجتمعنَ، وربما لم تقدر كثيرات منهنّ على البكاء قبل أمس
ضحى شمس
لا يمكن أن تتنبه إلى الأمر إلا عندما تصل إلى باحة كنيسة الفرنسيسكان الملاصقة للمستشفى العسكري في منطقة بدارو: أغلبية الجالية الإثيوبية الساحقة هي من النساء. ما يفوق مئتي امرأة حضرن أمس منذ الصباح الباكر، السابعة والنصف تحديداً، من أجل قداس الأحد الأول بعد الكارثة المكرس لراحة أنفس مواطناتهن، ومواطنيهم (الطيار والموظفون) المفقودين، في حادث تحطم الطائرة الإثيوبية الاثنين الماضي.
«كنيسة عين عار بعيدة»، تقول إحداهن حين نسألها لماذا أقمن القداس هنا في الكنيسة المعارة، التي لا تتسع لهن فتبقى الكثيرات في الباحة الشاسعة خارجها، مع أن كنيسة عين عار هي كنيستهن التي بنينها من تبرعاتهن. ربما كانت العادة أيضاً خلف الموضوع. فقد اعتدن اللقاء هنا كل أحد في باحة الكنيسة وتحت شجراتها القليلة التي لا تزال وارفة في العاصمة، يستأنسن ببعضهن ويتداولن آخر التطورات باللغة الأم. الأم، التي يخبئ الإنسان رأسه في صدرها في الملمّات. اللغة هنا، هي الأم بالنسبة إليهن. هكذا تسمعهن يتحادثن بأصوات عالية وفرحة، أصوات العطلة، وخاصة على الرصيف المقابل للكنيسة حيث يسترزق بعض اللبنانيين من بضائع نسائية يضعونها في صناديق سياراتهم، فيما تتحول الطريق إلى نوع من كاراج لسائقين عموميين يبقون طوال القداس، وهو قداس روم أرثوذكس، طويل جداً يستمر حتى الثالثة تقريباً، في انتظار الفوز بأجر نقل بضع إثيوبيات قد يردن العودة إلى منازل مخدوميهم في آخر النهار. هكذا، تراهم يواظبون على المناداة بصوت أعلى من المعهود على طريقة من يتوجه إلى شخص لا يفهم لغته: «دورة؟ فرن الشباك؟ ضبية؟ عين عار؟»، وحين لا يردّ عليهم أحد، يعترضون طريق الفتيات وهم يواصلون عروضهم: «أنت وين بدو يروح؟»، يقولونها بثقة من يتحدث بطلاقة لغة أجنبية ما!
لكن هذا الأحد لم يكن كأي أحد. حتى الباعة اللبنانيون الفقراء، كحال الإثيوبيات، لم يفرشوا بسطاتهم. وفي داخل الباحة، استندت الكثيرات بحزن بالغ إلى سور القضبان الحديدي المحاذي للطريق العامة، متّشحات بوشاحهن الشاشي الأبيض ذي التطريز عند الأطراف بأناقة محلية، صامتات بخشوع مع أن صوت القداس في الداخل لا يصل إلى الخارج. «تفضلي»، تقول لي تلك التي سألتها إن كان بإمكاني الانضمام اليهن. مردفة «ولو؟ أهلاً وسهلاً». أمام الكنيسة، أسفل الدرج المؤدي إليها، كومتان ضخمتان من الأحذية. إنهن يخلعن أحذيتهن قبل دخول الكنيسة. يتحلقن حولنا مستجيبات للأسئلة. نفهم منهن أنهن سيذهبن بعد القداس إلى صالون كنيسة عين عار «حتى نعزّي أخت لاكيش»، التي فقدت في تحطم الطائرة.
لا تتنبه إلى ما تدلّ عليه كلمة «إثيوبيات» إلا حين ترى إثيوبيين، أو بالأحرى إثيوبيَّين اثنين: شابان وسيمان في ملابس القساوسة، وسط بحر من مواطناتهن في باحة الكنيسة. تسألهن: لم ليس هناك شبان إثيوبيون كثر، فتجيب إحداهن: «شو بدون يجوا يعملوا؟ ما في شغل للشباب». يتحدثن إلينا عن «الكونترا (العقد) المسكر». تستفهم منهن فيتسابقن للشرح: «يعني ما بيخلوها تطلع على برة أبداً. ليش؟ أنت مسيحية (تقول واثقة) كيف ما بيخلوك تجي الأحد على الكنيسة؟». تسألهن إن كن يقرأن عقودهن قبل المجيء. تقول إحداهن: «أنا ما قريتو... مضيت وخلص». وماذا عن قنصليتهن؟ تقول أخرى تلبس الأسود: «أنا ما بعرف كتير. بعرف شوية زغير. بس بعرف إذا رحت على السفارة ما حدا إلو حق يطلعك كأنك ببلدك (أرض السفارة تتبع للبلد الذي تمثله) بس هون ما بيسمع مشكلتي. منشان هيك إذا مدام بتعذبك بيزتوا حالهن عن البلكون. واحدة جايي حتى تشتغل. ليش تزتّ حالها؟ أنا ما عندي مشكلة معلميني بيجننوا وأنا عندن من 10 سنين». تتدخل إحداهن وتقول لها كلاماً بالإثيوبية... لكن فتاة أخرى متشحة بالأبيض تتدخل غاضبة وتقول كلاماً لا نفهم منه إلا كلمة «قنصلية». ثم تتحدث بالعربية، فنفهم أن الأولى كانت تعترض على انتقاد القنصلية، لكن الغاضبة تقول لها بالعربية: «معليش خليها تحكي». تتدخل إيمي: «معليش اللبنانية اللي ماتوا كانوا هون شافوا أهلن وراحوا وماتوا. حرام بس إثيوبيات ما شافوا أهلن من ثماني سنين. وبعدين بدهم يروحوا على المستشفى ما بيخلوهن. الأحد على القداس ما بيخلوهن. شو هيدا؟». تقترب «بوزونيش». عيونها مغرورقة بدمع، لكنها غاضبة: «إنسانياً كتير صعب اللي عم بيصير. اللبنانية بيسافروا ليشتغلوا، الشغل مش عيب. بس ما بعرف كيف بيفكروا. في كتير

معليش اللبنانية اللي ماتوا كانوا هون شافوا أهلن، بس إثيوبيات ما شافوا أهلن
لبنانية محترمين، بس في ناس ما بتفهمي عليهن كيف راسهن». تعود سوكوندا للكلام: «كلهم بيقولوا الطيار الإثيوبي هوي اللي وقع الطيارة. ليش؟ شو عرفون؟ لأنو إثيوبي؟». تعود إيمي للكلام: «حتى المستشفى اللبنانية بيفوتوا تيشوفوا إذا بيعرفوا الميتين، بس إثيوبيا؟ العسكري ما خلانا. دفشنا لبرا». تصحح لها لينا: "لأ لا... اللبنانية كمان أخذوا منهم دم وما خلوهن يفوتوا. بس دفش الإثيوبيين».
فجأةً، يقترب أحد القسيسين من الفتيات. يتكلم بالإثيوبية إلى واحدة بعينها. تترجم لنا: «قال خلينا كل واحدة تتكلم لوحدها حتى تفهمي علينا». ظهوره يظهر التناقض بين أعداد النساء والرجال. هنا، حيث تمضي الفتيات سحابة سنوات من صباهن، لا مكان للحب والزواج والإنجاب. لجني مال قليل يعينهن على بدء حياة ما أفضل قليلاً في البلاد. بلاد من أجل «عمل المصاري»، لا أكثر. لا مكان لـ«فاكارتا»، الحب باللغة الإثيوبية.
وفاكارتا، الفتاة هذه المرة، كانت قصة اليوم. فجأة تنفضّ الفتيات من حولنا ويتجهن إلى فتاة تكاد تنهار بكاءً. الفتاة بلّغها رب عملها للتو أن ربة عمل أختها الهاربة من عندها واسمها فاكارتا عزو، اتصلت لتقول إن اختها على الطائرة، وإنّ عليها أن تعطي دماً لفحص الحمض النووي. الأخت ماستاوت تكاد تنهار، لا تعرف ما الذي ستفعله. صديقاتها يحملن جريدة تتضمن أسماء الأثيوبيات المفقودات بالأحرف اللاتينية، ليؤكدن لها أن شقيقتها ليست ضمنها. تقرأ ماستاوت الأسماء عشر مرات وهي تتبع بإصبعها على الشاشة. ثم ترتسم على وجهها الأسمر للمرة الأولى ابتسامة خجولة. تحسم اتجاهها سارّة بسؤالها الآتي: «أختك ما معها باسبور. كيف بدها تسافر؟».


«لم يحن الرحيل» في صيدا

صيدا ــ خالد الغربي
مرّ «الويك إند» ثقيلاً على العاملات الإثيوبيات في صيدا. غابت مشاعر الغبطة عن يوم الأحد الذي كنّ يحولنه إلى مناسبة للفرح والصخب والاستمتاع بوقت جميل، بعيداً من تعب الخدمة في منازل مخدوميهن، وفيه يسترقن الراحة ويرقصن. لكن «حادثة سقوط الطائرة الإثيوبية، وخسارة صديقات لنا حولتاه إلى أحد أسود بالنسبة إلينا»، تقول إحداهن وقد لفّها الحزن هي وزميلاتها، فانكفأن عن كل الأنشطة المقررة مسبقاً. هكذا، لم يشهد يوم أمس أية حفلات صاخبة اعتادت الإثيوبيات إحياءها في صيدا، ولم تنظم أية رحلات جماعية إلى أماكن سياحية لبنانية. هنا تشير العاملة الإثيوبية مكدسي إلى أنّ «الجالية الإثيوبية في حداد، لذا لم أذهب مع زميلاتي كما كان مقرراً إلى أماكن في منطقة فاريا». وتضيف بأسى: «لا وقت للفرح، ونحن مفجوعون على فقدان أخوات قضين على متن الطائرة وكنّ قبل أسبوع بيننا ومِتن بعيداً من الأهل والأصحاب». تقول مكدسي ذلك، بينما كانت تطلب من صاحب أحد الاستوديوات تسجيل عشرات «الكاسيتات» لموسيقى إثيوبية حزينة وأغانٍ تناجي الموت وفقدان الحبيب. تترجم الفتاة الإثيوبية إحدى الأغاني إلى العربية وتقول: «لم يحن الرحيل، لماذا تغادر وتتركني وحيدة وتسافر في المجهول؟ ليس باستطاعتي مواجهة الحزن على غيابك، فعد إليّ سالماً». وقد جرت العادة أن تتفق العاملات الإثيوبيات في منطقة الجنوب على التجمع خلال الويك إند في شارع رياض الصلح، وسط مدينة صيدا، ومن هناك ينطلقن لتنفيذ برنامجهن الترفيهي الذي يعدنه قبل أسبوع. أما البرنامج فيتضمن بعض الثوابت مثل زيارة الكنيسة في صيدا القديمة والمشاركة في قداس الأحد، والتبضع ومهاتفة الأهل في إثيوبيا من سنترال اعتاد أن يخصّهنّ بسعر رمزي، ثم المرور على استوديو لأخذ بعض الصور الفوتوغرافية. وبعد ذلك، قد تنطلق العاملات الإثيوبيات إلى أماكن سياحية في الجبل والشمال أو يتوجهن إلى مطعم على الكورنيش البحري حيث تقام حفلة غناء إثيوبي يرقصن على أنغامها. يوم أمس كان مختلفاً، فقد فرضت المأساة برنامجها الخاص الحافل «بالحزن»، فحضرت العشرات من الإثيوبيات باكراً إلى الكنيسة وصلّين لراحة أنفس جميع الذين قضوا على متن الطائرة الإثيوبية المنكوبة. «والصلاة لم تقتصر على أرواح الإثيوبيات فحسب»، كما توضح العاملة الإثيوبية تاغست التي لم تتمالك أعصابها وهي تخبر عن رفيقتها مامو التي كانت تعمل في منزل في بيروت وسقطت على متن الطائرة. تقول تاغست: «مامو كانت معنا يوم الأحد الماضي قبل أن تغادرنا عصراً لتوضيب حقائب سفرها، وودعتنا على أمل اللقاء مجدداً، وسألتنا ماذا تريدون من إثيوبيا؟». تشير تاغست إلى أنها ذاهبة إلى بيروت للمشاركة مع زميلات لها في نثر الورد على شاطئ البحر في المكان المفترض لغرق الطائرة.