يعيش في كندا نحو 300 ألف لبناني هاجروا إليها منذ نهاية القرن التاسع عشر، وما زالوا يقصدونها إلى يومنا هذا، بحثاً عن حياة مستقرة يعجز وطنهم عن منحهم إيّاها. في مدينة مونتريال، حيث التجمّع الأكبر للبنانيين، قصص نجاحات وخيبات يرويها من اختاروا أن يجرّبوا الغربة، ويحوّلوها إلى واقع حياة مستمر
مونتريال ــ زينب خليل
داخل محل البقالة الواقع في أحد أحياء مونتريال، تخبر البضائع عن نفسها. الحمّص وورق العنب والطحينة وغيرها من المعلّبات، تحتل الرفوف، لتكون في متناول لبنانيين هاجروا منذ زمن إلى تلك البلاد الباردة، لكنهم لم يقطعوا الصلة بعد بمطبخهم اللبناني. الحديث الدائر بين الزبون والبائع لحظة وضع الأخير المشتريات في كيس النايلون لا يختلف عمّا نراه في دكاكين القرى والبلدات اللبنانية. السؤال هو نفسه عن الصحة والأولاد والمدرسة وأمور العمل. لا داعي هنا إلى التحدّث باللغة الفرنسية داخل المحل، كما في هذا الجزء الشمالي من المدينة الكندية، التي صارت وجهة أساسية للُبنانيين اختاروها مقصداً لهجرتهم. ثمة أحياء كاملة في المدينة يقطنها اللبنانيون، حتى باتت تُعرف بهم. أقارب وجيران وأولاد بلدة واحدة جاؤوا تباعاً إلى المدينة عينها، بل إلى الحيّ عينه، وشيئاً فشيئاً كبر العدد وكوّن بنيته الاجتماعية، وهويّته العرقية. ليس الأمر استثناءً لبنانياً في بلاد تقوم على التعددية الثقافية، ضمن حفاظ كل فئة على خصوصيتها، حيث تتنوع التكوينات العرقية والإتنيّة.
لكل فئة من المهاجرين الحرية في إنشاء مدارسها ومراكزها الثقافية ونواديها الاجتماعية، ودُور العبادة الخاصة بها. هنا لا تثير ممارسة الشعائر، وخصوصاً الإسلامية منها، ذلك الجدل العقيم الذي نسمعه في فرنسا مثلاً. قد يكون ذلك من أهمّ الأسباب التي دفعت مهاجرين عرباً كثيرين إلى الرحيل عن فرنسا باتجاه كندا، تحديداً إلى مقاطعة كيبك، بحكم هويّتها الفرنكوفونية، حيث «ثمة احترام لهويّتنا الثقافية والدينية»، كما يقول الكثيرون ممّن عايشوا تجربة العيش في البلدين.
لذا، لن يكون مستغرباً أن تُحضر لك نادلة محجّبة القهوة في «تيم هورتونز»، أشهر المقاهي في كندا، أو أن تخصّص بعض البلديات دواماً خاصاً للنساء في المسابح العامة، تلبيةً لحاجة المحجبات من مواطناتها. السيدة اللبنانية التي قدمت إلى مونتريال منذ ثلاثة أشهر تخبر بسعادة عن بناتها اللواتي يرتدْن المدرسة بحجابهنّ بحريّة تامة. وتستفيض في الشرح حينما تتحدث عن حصة السباحة، التي ترتدي فيها ابنتها ثوباً خاصاً بها من دون أن يستشيط المدرب غضباً.
لكن الوصول إلى تلك المساحة الفاصلة بين الاندماج في المجتمع الكندي، والحفاظ على الهوية، تسبقه رحلة طويلة قبل نيل الهجرة، والعبور نحو الأراضي الكندية.
خمس سنوات أمضاها بسام منتظراً قبول السلطات طلبه الهجرة. مدرّس التعليم الثانوي، ما إن جاءه الرد إيجاباً حتى غادر قريته، وأتى برفقة زوجته وأولاده الثلاثة، ليبدأ حياة جديدة في مونتريال. قد لا تبدو البداية على قياس طموحات الرجل الحامل شهادةً جامعية عليا. لكن الماجستير في القانون لن يسعفه هنا للحصول على عمل ملائم، لذا كان عليه أن يضع تحصيله العلمي جانباً، وأن يقبل العمل في مغسل للسيّارات.
صحيح أن باب الهجرة إلى كندا مفتوح، وإن بشروط، لكن فرصة إيجاد عمل يقع ضمن اختصاص طالب الهجرة ليست بالأمر الهيّن، أو المتاح دوماً. قد يحتاج المهندس مثلاً إلى سنتين أو أكثر لينجز المعادلات القانونية والجامعية لشهادته اللبنانية، حتى يتمكّن من العبور إلى سوق العمل. لذا قد يفضّل الكثيرون العمل في مغاسل السيارات، ومحطات الوقود، أو المطاعم وغيرها بدلاً من انتظار عمل يلائم تخصّصهم قد لا يأتي أبداً. ولكن لمَ يتحمّل هؤلاء مشقّة الهجرة إلى كندا من أجل أعمال تصنّف بالمتواضعة في السلّم الوظيفي؟ السؤال سيحيلنا على عشرات الإجابات.
ففي نظر بسام، بين أن يبقى مدرّساً في لبنان، وأن يصبح عاملاً مياوماً في كندا، لن تكون المفاضلة لمصلحة الخيار الأول.
هنا، «الراس مرتاح» من همّ الكهرباء، ومياه الشرب، وأقساط المدرسة. هنا لا يخاف بسام على أولاده إذا مرضوا، لأن الضمان الصحي كفيل برعايتهم. هنا تسهم الدولة عبر معونتها الاجتماعية شهرياً في تغطية جزءاً من إعالة العائلة. والأهم من ذلك كله، سيحصل بسام وأفراد عائلته بعد ألف وثمانين يوماً من إقامتهم في كندا على جواز السفر الكندي ـــــ الباسبور الحلم ـــــ بنظر جميع المهاجرين. «الباسبور» يضعه من يقصد هذه البلاد نصب عينيه، فهو يشرّع له أبواب المطارات، التي لا ترحّب عادةً إلا بمواطني العالم الأول. لبنانيون آخرون يتحدثون عن اتساع فرص الحصول على عمل في المؤسسات العالمية، لا بل عن الراتب المرتفع الذي تدفعه الشركات داخل الدول الخليجية لموظفيها اللبنانيين، من حاملي الباسبور الكندي.
قد يكون «جواز السفر» هذا هو ما يدفع الكثيرين إلى العيش في بلاد تقلّ حرارتها شتاءً عن الثلاثين درجة مئوية تحت الصفر، لكن الحياة المستقرة والآمنة هي أيضاً ما يبحث عنه المهاجر اللبناني في كندا. فطبيب الأسنان الذي ترك لبنان، ويعمل حالياً بائعاً في أحد المتاجر بمدينة مونتريال، لا يقدّم أكثر من سبب وحيد لهجرته «صار بإمكاني اصطحاب أولادي لنتعشّى في المطعم من دون أن أقلق من العودة إلى منزلي ليلاً، لأن «مشكلاً» بين زعران الحي يهدّد بإشعال فتنة طائفية».

لا تستغرب أن تُحضر لك نادلة محجّبة القهوة في مقاهي كندا
بدوره، يتحدث حسين، الباحث الجامعي في جامعة «ماغيل»، إحدى أرقى الجامعات الكندية، عن ذلك الشعور بالأمان الذي وجده في هجرته الكندية، ولم يجده في أيّ مكان آخر. لا يأتيك بإجابته من فراغ، هو الذي درس في الجامعة اللبنانية، ثم انتقل إلى فرنسا، حيث حصل على شهادة الدكتوراه في الرياضيات التطبيقية، ومن بعدها عمل في جامعة ستانفرد في الولايات المتحدة الأميركية، قبل أن يقرر الاستقرار في كندا. يسهب في الكلام عن «المواطنة»، التي يعيشها الإنسان في حياته اليومية، من دون أن يكون مرتهناً لذلك السياسي أو الزعيم. هو الارتهان نفسه الذي منع عنه عندما كان طالباً في الجامعة اللبنانية منحة الدراسات العليا. لا يبدي حسين أسفاً عليها، فقد تمكّن من متابعة تخصّصه في الخارج دون منّة من أحد.
لكن مقابل هذا الاستقرار الذي يبحث عنه البعض هنا، ممن نجحوا في حياتهم المهنية، فإن آخرين يقرّون بأن المسافة قد أصبحت أكثر بعداً عن الوطن الأم، فتسارع الحياة ووتيرة العمل يدفعان باتجاه أن يؤجّل أحدهم زيارته إلى لبنان، لأكثر من اثني عشر عاماً، بانتظار «وقت» يعجز عن التقاطه. وآخر يعترف بأن لا وقت لديه حتى للجلوس مع أولاده في بيته المونتريالي، فكيف بتنظيم رحلة إلى لبنان؟
أما تكاليف السفر المرتفعة إلى لبنان، ولا سيّما على كاهل العائلات، فتلك قصة أخرى تجعل هؤلاء ينسون أو يتناسون قضاء الإجازة الصيفية في الوطن، ويفضّلون البقاء في موطنهم الجديد، حيث تحوّلت غربتهم إلى واقع معيش انتفت معه مواجع
البعد.


من البهدلة إلى الاحترام

يتحدّث أحد اللبنانيين الحاصلين حديثاً على الجنسية الكندية، عن الفارق الذي صار يلمسه في تعامل أمن المطارات معه «من البهدلة إلى الاحترام»، ويتابع السرد «كنت في السابق حينما اضطّر إلى قضاء فترة ترانزيت، في إحدى العواصم الأوروبية، أنتظر موعد رحلتي ممدّداً على كرسي المطار، بينما تنقل شركة الطيران أولادي وزوجتي الحاملين للجنسية الكندية إلى أحد فنادق المدينة للراحة. كل شيء تغيّر الآن». تأسيساً يصبح نيل الجنسية الكندية مطلباً مغرياً، ولا سيّما أنّ كندا تمثّل استثناءً بين الدول الغربية، فهي الوحيدة التي لم توصد بعد أسوارها العالية بوجه الراغبين في الهجرة، كما سبق أن فعلت نظيراتها الأوروبية، التي أعلنت منذ زمن اكتفاءها بمن تضم من مهاجرين شرعيين وغير شرعيين. لكن الوضع هنا مختلف، ولا سيّما في الجزء الفرنكوفوني من البلاد، حيث يتناقص عدد المواطنين بسبب تراجع نسبة الولادات، ما يجعلها تحتاج إلى «سكان» يستمر وجودها بهم.