للحج إلى مكة شعائر ومناسك مثبتة وواضحة في الكتب الفقهية ورسائل المراجع وسيرة السلف الصالح، أضيفت إليها طقوس يكلّف المجتمع الحجاج بها بعدما تحولت عرفاً. طقوس تبدأ بالبذخ في الهدايا، ولا تنتهي بلعلعة الرصاص كلما دخلت طائرة حجاج المجال الجوي للعاصمة، بلا رقيب أو حسيب
منهال الأمين
ينتظر أبو خالد عودة زوجته من الحج على أحرّ من الجمر، وإن كان لديه الكثير من العمل تحضيراً لاستقبالها. يخفّ إلى محل بيع «اللوازم الإسلامية» لإحضار عدة التزيين، إذ يقول للشاب العامل هناك: «هل ستذهب أم خالد كل سنة إلى الحج، هي مرة بالعمر وبتستاهل نعجقها». أبو خالد يطلب من الشاب أن «يشكّل» له مجموعة مسابح وخواتم وعيدان مسواك ومصلِّيات، وألا ينسى لافتة الترحيب حاملة العبارة التقليدية: «أهلا وسهلاً بحجاج بيت الله، حج مبرور وسعي مشكور»، كذلك سعف النخيل.
ما فعله أبو خالد هو أبسط ما يقوم به أهالي الحجاج وأقاربهم. لكن الطقوس المرافقة لهذا الواجب الديني تبدأ قبل السفر إلى السعودية. ولا تقتصر على القيام بزيارات المسامحة، أو سداد الديون والمستحقات الشرعية. هناك الهدايا أيضاً. إذ إنه بخلاف ما يظن الكثيرون، يحرص الحجاج على تأمين لوازم الحج من السوق المحلية قبل السفر «كي يكون كل شيء جاهزًا لاستقبال المهنئين»، وفق أبي جعفر دقماق، صاحب مؤسسة في بئر العبد.
يرد دقماق أسباب تسوق الحجيج لوازمهم من لبنان إلى ضيق الوقت بسبب التأخر في إعطاء التأشيرات للبنانيين، «بخلاف دول أخرى قد يتوجه حجيجها إلى السعودية قبل الحج بأسابيع، وهو ما يتيح لهم إضافة رحلة سياحة وتسوق إلى رحلة الحج». سبب آخر، هو الوزن الإضافي بعد منع الحج بالبر، ولا ننسى الأهم «الرغبة في تنفيع ابن البلد». لكنّ هناك أمراً لا مفر من حمله من مكة بالتحديد، وهو مياه زمزم التي يحرص الحجيج على الاستزادة منها.
وللتهنئة بالعودة طقوسها أيضاً، إذ يبدأ الناس بالتوافد إلى منازل الحجاج فور علمهم بوصول أحدهم. يخرج الوفد من بيت ليدخل آخر، وكثيراً ما تلتقي الوجوه نفسها من منزل إلى آخر، كأنها تلاحق بعضها بعضاً، خصوصاً في القرى. وخلال الزيارة التي من المفترض ألا تطول لأكثر من عشر دقائق، تدور صواني الضيافة: فنجان نحاسي صغير من مياه زمزم، حبة تمر، والبعض قد يقدم الحلويات أو الشوكولا أو العصير. وعند الخروج، تستوقفك صينية الهدايا: مسابح عادية (الدزينة بـ2500)، أقراص صلاة (عند الشيعة خاصة)، عيدان المسواك. وهناك من يضيف سجادة صلاة يتراوح ثمنها بين 2500 ليرة، و3500 ليرة. أما الهدايا الخاصة فقيمتها من قيمة الزائر عند الحاج، وتتنوع بين مسابح البلاستيك والزجاج (2000 أو 3000 ليرة)، ومسابح اليُسر، إضافة إلى مصاحف مزيّنة، ولوحات فنية لآيات قرآنية أو مشاهد من الديار المقدسة.
يشير دقماق إلى أن موضوع الهدايا أصبح عُرفاً، مع أن الأصل فيه هو «بركة الأماكن المقدسة التي قد تكون تمراً أو مسبحة، ولكنها تطورت مع الوقت وأصبح لها معاييرها وطقوسها الخاصة، وفي الفترة الأخيرة، أصبح المهنئون يقدمون الهدايا للحجيج، كما يحصل في أي واجب اجتماعي، ما يضطر الحاج إلى زيادة الهدايا تحسباً».
ويرى أن هذا يرهق الحجاج من ذوي الدخل المحدود، مادياً، حتى تجد كثيرين يرددون مقولة: «معي حق حجة بس ما معي حق هدايا»، لافتاً إلى أن البعض يقصد مؤسسته ليلاً أو في الصباح الباكر «لأنه انقطع من الهدايا أو التمور، بسبب كثرة المهنئين».
في جعبة أحد أصحاب مؤسسات بيع لوازم الحجاج، الذي رفض ذكر اسمه «احتراماً للزبائن»، الكثير من القصص عن «صرعات» الحجاج. فأحدهم مثلاً، طلب تأمين مسبحة من اليسر، عبارة عن 33 حبة، منقوش بالذهب على كل حبة منها، اسم أحد الشخصيات المحبوبة لديه، كي يقدمها له هدية. تحضير مثل هذا الطلب يتطلب أسبوعاً كاملاً، وهو يجهز عادة في مصر، ولذا يجب الحجز مسبقاً! وبحسب صاحب المؤسسة نفسه، فإن هناك تفاوتاً من حاج إلى آخر، في طبيعة المشتريات ونوعيتها وأسعارها، ففيما يبلغ متوسط تكلفة الحج 3 آلاف دولار (سعر الحملة + مصاريف)، فإن بعض الحجاج قد يصل حجم تسوقهم للهدايا فقط إلى 5 آلاف دولار!

يردد كثيرون مقولة «معي حق حجة بس ما معي حق هدايا»
تقع على أهل الحاج أو أصدقائه «فريضة» التزيين، فيعمد هؤلاء إلى التحرك قبل أيام من حضوره ليعدوا العدة، وكله من المصدر نفسه: محال بيع اللوازم الإسلامية. أما «بدعة» المفرقعات كما يسميها رامز حسن، فهي تعد اللمسات الأخيرة لتحضيرات استقبال الحجاج، فتنصب في الشارع المقابل لمنزل الحاج عند وصول الطائرة إلى المطار، وتنطلق بالعشرات عند وصوله إلى باب المنزل. ولا فرق لدى المبتهجين بحجاجهم، سواء وصلت الطائرة عند الثانية عصراً أو فجراً. وقد يحل الرصاص محل الأسهم النارية، وهذا أصبح شائعاً أخيراً، حتى عندما يرد اسم الشخص مقبولاً للحج، كما يتندر البعض، تأكيداً للابتهاج.
هذه عادات غريبة عن طقوس استقبال الحجاج، كما يرى إبراهيم صعيدي، الذي يقول إنه حين عاد من الحج العام الماضي تفاجأ بعشرات الأسهم النارية تطلق في وجهه، مما أغاظه، فقال لأولاده: «أكيد بِطْلِت الحجة بسبب هذا الإزعاج للناس».
وفي الجنوب والبقاع مثلاً، لا وجود للمفرقعات والرصاص، وإن كان شائعاً لدى البعض تقديم الذبائح، فـ«يفشخ» عليها الحاج، تعبيراً عن الشكر بعودته سالماً، لأن انطباع الناس عن رحلة الحج مستمد من مشقة الزمن الغابر، حين كانت تستغرق أشهراً، على الدواب، أو على الأقل شهراً، بعد تطور وسائل النقل البرية (سيارة، باص، بولمان...). فالحج مثل غيره من العادات والتقاليد والشعائر، وإن حافظ على مناسكه، اخترع له الناس طقوساً وألزموا أنفسهم بها، حتى صار محظوظاً «من استطاع إليه سبيلاً».