إيلي شلهوب


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

وأخيراً، كرّس باراك أوباما رسمياً نفسه رئيس حرب تدور رحاها في أفغانستان، ذاك البلد الذي وصفته أدبيات الرئيس الأسود، منذ ما قبل وصوله إلى البيت الأبيض، بأنه العصب المركزي للتهديدات والمخاطر التي تواجهها الولايات المتحدة. هي النتيجة المنطقية لتلك الاستراتيجية التي خرجت قبل أيام إلى العلن بعد أشهر من مخاض انقسمت في خلاله الولايات المتحدة إلى معسكرين: الأول، وغالبيته تتألف من مناصري الرئيس، يدعو إلى وقف الحرب التي لا تستأهل تكاليفها. أما الثاني، ومعظمه من خصومه، فيطالب بتسعيرها حتى القضاء على آخر عنصر من طالبان، و«القاعدة».
كعادته، لم يخيّب أوباما آمال أي من الطرفين. جاءت استراتيجيته تسووية، أعطت الفريق الأول موعداً لبدء الانسحاب في عام 2011، فيما أهدت الفريق الثاني 30 ألف جندي لتعزيز القوات. بهذا المعنى، تعدّ الاستراتيجية المذكورة انعكاساً لموازين القوى في الداخل الأميركي أكثر منها تعبيراً عن الواقع الميداني في أفغانستان وشقيقتها باكستان.
بل أكثر من ذلك، بات أوباما رئيس حرب بحكم الضرورة، لا بفعل الرغبة. يجب ألا ننسى أن أفغانستان احتلت الصدارة في خطابه السياسي في سياق السباق إلى البيت الأبيض، وبعدما سقط العراق كورقة انتخابية مع عودة الهدوء على أنقاض الاقتتال المذهبي في بلاد الرافدين. كما أن قناعاته التي عبّر عنها غير مرة وفي أكثر من مناسبة، هو وجنرالاته ومنظّرو فريقه، تناقض مبدأ تسعير الحرب: لا يمكن ربح المعركة ضد طالبان المتجذرة في المجتمع الأفغاني (جرت مقارنتها بحزب الله). لا يمكن السيطرة على الأرياف الأفغانية الواسعة الانتشار والوعرة التضاريس. وبالتالي، يجب الحوار مع «المتمردين» واستيعابهم في التركيبة الجديدة. يجب الاكتفاء بضبط الأمن في المدن وترك الأرياف على غاربها... أما بالنسبة إلى عناصر «القاعدة» فلا شك في أن أجهزة الاستخبارات الأميركية باتت على اقتناع بأنها تبخرت في مختلف أصقاع الأرض، وما إشارة أوباما إلى الصومال واليمن إلا دليل على ذلك.
حتى بالنسبة إلى ضبط الحدود، وقد كانت الحجة أن الإسلاميين يعبرونها للاختباء في باكستان ويعودون منها عندما يريدون تنفيذ عمليات أو عندما تهدأ الأوضاع. ذريعة سقطت مع حروب وزيرستان ووادي سوات. كذلك الأمر بالنسبة إلى المراهنة على نظرية الكماشة: عسكر باكستان من الشرق و«الأطلسيون» من الغرب، لا يبدو أنها ستكون مجدية.
كان واضحاً أن الاستراتيجية تلك جاءت معبّرة عن هذه المخاوف. أصلاً، لقد حدّدت لنفسها هدفاً متواضعاً: تسليم المسؤولية الأمنية إلى الأفغان (التركيز كان على المشاركة بين القوات الأميركية والقوات الأفغانية لرفع مستوى هذه الأخيرة). اختصر مفهوم «النصر» بهذه المهمة. هل ما زال أحد منكم يذكر معانيه السابقة؟ دولة ديموقراطية ترفرف الحرية فوق كل منزل فيها...
بل أكثر من ذلك؛ يبدو أن الإدارة الأميركية قد أصبحت على اقتناع تام بأن أفغانستان لم تكن يوماً، ولن تكون، دولة متماسكة قادرة على السيطرة على كل أراضيها. التصريحات الأخيرة لروبرت غيتس أبلغ تعبير: المسؤولية الأمنية ستسلّم إلى القبائل الأفغانية. نعم. هذا ما تفتّق عنه أخيراً العقل الأميركي: أفغانستان فسيفساء قبائل. صحيح. هو العجز عن إيجاد بديل للدين (الإسلامي) كعنصر موحد. يضاف إلى ذلك كله وصف «استراتيجية خروج» الذي أطلق عليها. التبرير كان معبراً: تسعير الحرب لتسريع عودة القوات إلى الوطن.
لا بد هنا من الاعتراف بجرأة أوباما على اتخاذ قرار غير شعبي كهذا في بداية ولايته الأولى، خلافاً لجورج بوش الذي اتخذ قرارين مشابهين (تعزيز القوات في العراق وأفغانستان) ولكن في النصف الثاني من ولايته الثانية عندما لم يكن لديه شيء ليخسره.
هي الرغبة في الانسجام مع النفس والوفاء بالوعود الانتخابية وإثبات جدارة القيادة وجرأة خوض غمار الحروب، حتى لو تكلفت بضع عشرات إضافية من مليارات الدولارات في ظل أزمة اقتصادية خانقة لا يُعرف لها مخرج بعد. بل هي الرغبة في التخلص من عبء حربين أرهقتا أميركا، وإن أنعشتا الصناعات العسكرية والنفطية فيها، مع الاحتفاظ بالحد الأدنى من ماء الوجه. أكثر المتضررين منهما هم العسكر وصناع القرار، الذين كبّلت أيديهم حقيقة العجز عن خوض حرب ثالثة. واقع لحظه كل من له ثأر مع العم سام، فبات يسرح ويمرح مدركاً أن لا أحد في واشنطن يجرؤ على المخاطرة بمواجهة يمكن أن تتدحرج إلى صراع عسكري، في مقدّم هؤلاء طبعاً ملالي إيران.
موعد 2011 لا شكّ في أنه لافت في هذا السياق. في آخر هذه السنة، يفترض أن يكون العراق قد أصبح خالياً من أي جندي أميركي، وأن يكون الانسحاب قد بدأ من أفغانستان. وهو الموعد المفترض لامتلاك إيران القدرة على تصنيع قنبلة نووية، بحسب التقديرات المتشائمة أميركياً، وإن كان التقدير الرسمي الأخير يتحدث عن 2013 حدّاً أدنى.
لعل الرابط بين الاستحقاقات الثلاثة ليس عضوياً بحسب الصيغة التي جرى تصويرها آنفاً، لكنه يشير إلى توجّه ما. القائل به لا بد من أنه لا يزال مقتنعاً بقيامة ثانية للولايات المتحدة. في المقابل، هناك من يشبّه أوباما بأنه غورباتشيف أميركا التي يتوقع لها مصيراً مشابهاً لمصير الاتحاد السوفياتي.
إن غداً لناظره قريب.