أنسي الحاج ينتهي الكلام وبالكاد يكون الحديث عن الفوارق والجوامع بين المرأة والرجل قد بدأ، فكيف بالحديث عن الشعراء والمرأة؟ هنا، في هذا الركن العميق الالتباس، يختلط الحرام بالحلال والنقص بالكمال والسذاجة البلهاء بالعبقريّة.
خلال تصفُّح مجموعة قصصيّة لغي دو موباسان معزَّزة بملحق وثائقي يضمّ بعض مقالاته الشهيرة، وقعتُ على واحدة منها تحت عنوان «حبّ الشعراء». رغم موجات الأساليب الجديدة التي دخلت على الأقصوصة أو القصّة القصيرة، وخاصة في العالم الانكلوساكسوني وقبله الأدب الروسي، يحتفظ موباسان بنضارة هالته وشرعيّة سيادته في هذا الحقل. ولكن ليس هذا موضوع مقالنا، بل فحوى مقالته «حبّ الشعراء». تثير هذه المقالة المؤرَّخة عام 1883 قضيّة الحبيبة الواقعيّة والحبيبة المتخيَّلة، وازدواجية الشعراء حين يزعمون أنواعاً طهرانيّة أو مثاليّة من الحبّ ويعيشون أنواعاً تراوح بين الحماقة والوحل. ولنترك الكلمة للأديب الفرنسي. بعد أن يسمّيهم «قاطفي النجوم العجّز» يقول: «إن الانفعال الطبيعي في الروح الشاعريّة، مشحوذاً بالتوتّر الفنّي الذي يستلزمه الخَلْق، يدفع الشعراء، هؤلاء الكائنات النخبويّة، ولكن الفاقدة للتوازن، إلى تَصوّر نوعٍ من الحب المثالي، الغائم، الفائق الحنان، الذهولي، غير المشبَع أبداً، الشهواني من دون جسدانيّة، الذي من رقّته يوقعه أدنى شيء في غيبوبة، حبّ مستحيل التحقيق، ويفوق طاقة البشر. لعلّ الشعراء هم بين الرجال الوحيدون الذين لم يحبّوا امرأة على الإطلاق، أقصدُ امرأة حقيقيّة من لحم وعظم، بصفاتها الأنثويّة الخاصة، وعيوبها الأنثويّة، وعقليّتها الأنثويّة، العقلية المحدودة واللذيذة، وبأعصابها الأنثويّة، وبأنثويّتها المبلبِلَة.
«كل امرأة يلتهب لها حلمهم هي رمزُ كائنٍ لغزيّ، لكنّه خرافيّ: إنه الكائن الذي يغنّيه منشدو الأوهام هؤلاء (...) ما إن يلمسوا يداً تستجيب لَمْسَهم، حتّى تحلّق روحهم في الحلم الخفيّ بعيداً عن الواقع الجسميّ. والمرأة الملهوفة ترتعش حتّى القلب لأن شاعراً يحبّها هذا الحبّ! هي، البسيطة، تحبّه كما تُحِبُّ جميعُ النساء، على نحوٍ بَشَريّ، وبطريقتها الشعريّة الساذجة بعض الشيء، واندفاعتها البورجوازيّة، في مزيج حائر من المثاليّة والشهوانيّة، من الدلال والخيال، من القبلات والكلمات الرنّانة. غير أنها تحبّه هو، هو وحده، وحده دون سواه، كما هو في لحمه وروحه».
ثم ينتقل موباسان إلى تسمية بعض الشعراء المصنَّفين، عادةً، شعراء حبّ كباراً، سائلاً: «هل هناك شاعر عرف الحب؟ تعالوا نبحث». ويبدأ باللاتيني فرجيل، صاحب «فنّ الحبّ»، ملقياً عليه شبهة مريبة إذ يقول: «تُرى، مَن يعرف إلى أيٍّ من الجنسين اتجه تفضيله؟ هذا ما يجهله الجميع!».
ويضيف: «الإغريق أيضاً كانوا يحتقرون حب النساء لأنّهنّ لا يطابقنَ مَثَلهم الأعلى عن جمال الشكل! إذاً، مَن ذا الذي عرف الحب؟ أهو المُعْتِم دانتي، ذلك الذي يعتبره العشّاق قدوتهم؟ يوم شاهد بياتريس وعَبَدَها كانت في الثانية عشرة! كان بحاجة إلى امرأة ليغنّي! وكانت تلك الطفلة كافية لروحه المرتعشة. أَحبّها في العزلة وفي حمّى الهذيان الشعري، كما تُحَبّ الملهِمة. بالكاد عرفها. لم يكن بحاجة إليها. لم تكن سوى الشكل الذي اشتهاه حلمه، من بعيد!
«مَن، مَن ذا أحبّ؟ بيترارك لم يحصل على لور إطلاقاً. يحتاج النحّاتون إلى رخام لنحت تمثالهم، فكانت هي رخامه. في الواقع كانت امرأة عاديّة وأُمّاً جيّدة، محاطة بالأولاد، بورجوازيّة وديعة. ولكنْ ما همّه من هذا كلّه؟
«مَن، مَن مِن الشعراء أَحبَّ؟ غوته؟ كان يلزمه خمس عشيقات (...) ليمتلك مروحة تضم مختلف أنواع الحنان البشري، مختلف أنواع الإلهام التي تحتاجها موهبته، بينما يخزن في قلبه ولعاً محض مثالي بسيدة عظيمة لا وصول إليها، بشيء سام، صافٍ، يملأ دماغ الفنّان فيه. وفي الوقت ذاته كان على علاقة جنسيّة بذكيّة حسناء. وهكذا يُشبع الروح والحواس، مازجاً الحنان بالشعر والمجاسدات. وكان على علاقة أيضاً بواحدة سهلة طيّعة، أداة سلسة للمتعة والراحة، ومعها المائدة دوماً عامرة، فيما الأحضان دوماً مفتوحة.
«إلى هذا لم يكن يزدري الخادمة، خادمة الفنادق المزرقَّة الذراعين، المحمرّة اليدين، الدهنيّة الشعر، ذات الألبسة الداخليّة الخشنة والمشبوهة. فلا بدّ كذلك من إشباع الغرائز الرخيصة. وعندما يهبط الليل، كان غوته يلهث، بين الأزقّة، وراء بيّاعات النشوة.
«ليقل لي أحد مَن مِن الشعراء أحبّ؟ لامارتين؟ وهل «الفير» سوى غيمة جُعلت امرأة؟ تلك الهيئة الحائرة ذات الاستدارات البشريّة التي هي دائماً امرأة الشعراء!
«موسّيه؟ حين سئم البحث عنها دون أن يجدها، تلك التي كان يناديها قلبه وأبياته، راح يطاردها في البيوت العموميّة، خلال ضباب السكْر. ومات من عدم تحقيق حلمه!
ولا أحد منهم أَحَبّ! بعضهم، سحابة ساعات، خُيّل إليه وَهْمُ الحبّ، هذا كلّ ما في الأمر...».
■ ■ ■
كان موباسان، شأنه شأن أقرانه من أدباء «المدرسة الطبيعية» كفلوبير والأخوين غونكور وألفونس دوديه وإميل زولا، يهوى انتزاع الغلاف الشاعري المحيط ببعض الأفكار والعادات. لم تكن هذه النزعة تسمّى ساديّة لكنّها كانت كذلك. بل سادو ـــــ مازوشيّة، ففيها من إيلام الذات قَدْر ما فيها من صَدْم الآخر. وحياة موباسان الشخصيّة لا تقلّ إيغالاً في التعرية والبَضْع عن قلمه، ولا مقالاته عن قصصه. ومع هذا لم يستطع التخلّص من الشعريّة كما أراد أن يوحي، وقصصه، التي فاقت المئتين والستّين، ظلّت، على واقعيّتها الناتئة أحياناً، تشفّ عن سليقة شعريّة أقرب إلى الانطباعيّة منها إلى الاتجاه الذي سمّى نفسه «طبيعيّة علميّة اختباريّة».
كان متشائماً وشفيقاً، هالكاً وقويّاً، قاطعاً الأمل و«صلباً كالفرح» كما وصفه ملّلارميه. كان راوياً أكثر منه رائياً. ولا يحتاج المرء إلى كبير فطنة ليشعر بأن هذا الانهيال بالأظافر على أقنعة الشعراء هو صنف من أصناف الصدق الطمّاع. الطمّاع بأن يكون الواقع منطبقاً على الزعم، الطمّاع بمَن يكذّبه ويقطع دابر سوء ظنّه بالتصعيد الحالم وبالتوق. كأنه فُجع ذات يوم بأحلامه فأخذته حمّى الثأر منها.
تأتي هذه النعرة الواقعيّة في جانب منها ردّ فعل على الرومنتيكيّة. ولعلّها بلغت ذروتها بعد عقود في أدب جان بول سارتر، وقد انضاف حينها، أي في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، عنصر آخر إلى عناصر تأجيج رد الفعل هذا، هو السورياليّة، إذ أعادت حمل مشعل الخيال والحلم والرؤيا إلى مسافات نظريّة وفلسفيّة تجاوزت الرومنتيكيّة.
غير أن المشابهة بين زولا وسارتر تقف عند حدود عامة، والفوارق بينهما في الأهداف والجوهر كبيرة، بينها أن زولا كان يعتقد بالحتميّة الوراثيّة، بينما بشّر سارتر بالحريّة وبأن الإنسان يصنع قَدَره بنفسه.
■ ■ ■
يشفق كثيرون وكثيرات على المرأة من خيال الشعراء مثلما يشفقون على الشعراء من واقع المرأة. بل من الواقع كلّه. ولكنْ هل خيال الشعراء هو خيالهم وحدهم وهل واقع المرأة هو الواقع الوحيد الذي يحلم الإنسان بتغييره؟ وهل مأساة الهوّة الفاصلة بين الحلم والواقع مقتصرة على الشوق الغرامي أم هي مأساة الفكر مذ وُجد للإنسان رأس يفكّر؟ ثم، ماذا يضير المرأة أن يراها الشاعر أجمل ممّا هي؟ يعتدي ذلك على «حقّها» في «التمتّع» بالاسترخاء البشري وما فيه من حاجات وعادات واستسلامات وتكاسلات وبشاعات تأبى الكلمات التعبير عنها... يعتدي دون شكّ على هذه «الحقوق». ولكن هذه «الحقوق» تعتدي بدورها، إذا استسلمت لها المرأة دون حرج، وتعتدي أكثر وبفاعليّة أخطر، على العصب الحيويّ لمجرى الجاذبيّة بين الجنسين. وإذ يعبّر الشاعر عن أحلامه التصعيديّة، سواء الجنسيّة منها أو العاطفيّة الأقلّ جسديّة، فليس عن نفسه وحدها يعبّر بل عن التوق العميق في نفس كلّ رجل وحواسه وماضيه وحاضره ومستقبله.
هجوم موباسان على غوته هو الأقذع في قائمة الشعراء المشتومين. ولكن في الحقيقة ماذا يريد موباسان من غوته؟ منعه من أن يعقد حلماً على صورة مثلى؟ أن لا تكون له علاقة ولا بامرأة حتّى يغفر له تغنّيه بامرأة محلومة؟ أم يريده فقط عاشقاً لحلم حتى ينبري إلى تهشيم «انحراقه»؟
لا أنتقاص من أهميّة شهادة موباسان، وفيها ما فيها، إلى جانب القسوة، من صواب. ولا تقليل خصوصاً من أهميّة الجسد بواقعه اللحميّ الحيوانيّ، فلا خيال يصحّ إلاّ بناءً على هذا الواقع، وحلم الشعراء الحقّ هو الوصول إلى رغبة دائمة التوهّج في جسد دائم الإغراء. لكنّنا نتوقّف بحَذَر أمام احتدام لهجة الكاتب ضدّ الصورة الوهميّة أو المتخيَّلة للمرأة في ذهن الشاعر. فنحن لا نرى هذا الرأي ولا ندين الجموح الخيالي، جنسيّاً كان أم طوباويّاً بشكل عام، بل بالعكس نقف ضدّ الاتجاه العكسي، أي صبّ الماء البارد على حماسة الرغبة، لتهشيل الحلم بحجّة الانحياز إلى الحقيقة.
لندع هذا الدور لحفّاري القبور. مبرّر وجود الفنّ هو خَلْق السعادة. وحتّى لو تساهلنا إلى النهاية، لن يقلّ مبرّر وجود الفنّ عن خلق لحظة انخطاف تُسابق انخطاف أيّ نشوةٍ كانت، سواء نشوة الولادة أو نشوة الجنس أو نشوة الموت.
الفنّ، وفي طليعته الأدب والموسيقى والتصوير، لا ينحاز إلى الحقيقة الواقعيّة بل إلى الحقيقة الجماليّة، أي إلى المشتهى. لا أحد بحاجة إلى الإحباط.
والشاعر لا يكذب عندما يَنْشد. طموحه طموحُ أرقى وأنقى ما في الإنسان. هنا تسمو نفسه على ما كان يُنْسَب إلى أعاظم الآلهة من فضائل.
يُتَّهم الشاعر في رؤاه. ولكنْ ما حيلة هذا الرأس الطفولي وقد فُطر على الهرب إلى الفراديس؟ وماذا يفعل إذا كان الشكل الأنثوي ينعكس حتماً عليه أروع وأبعد ممّا هو في الواقع؟
إذا كان الاعتقاد بأن الواقع خطأ وخيال الشاعر على حقّ هو ضرب من الجنون، فلا بأس بجنون رحيم وخَيِّر كهذا. وليتقاعد المتعَبون من هذه الثنائيّة المرهقة بين حلم ويقظة، سيظلّ الشاعر ينام على هذا الحلم ويصحو، وسيظلّ حلمه أقرب المستحيلات إلى التحقيق.