عثمان تزغارت*فجأة، وأنا عائد في سيارتي، من مركز الصحافة الدولية في باريس، الثلاثاء الماضي (1 كانون الأول/ ديسمبر)، تملّكني الزهو، وأحسستُ بسعادة غامرة. قلتُ في نفسي ولنفسي: كفى تشاؤماً وسوداوية يا بُنيّ! ها هي هذه الأمة العربية المباركة تقطع خطوات عملاقة على درب التحضر والسلم المدني. قبل سنين ليست بالبعيدة، كان الحوار العربي ــــ العربي يجري بالـ«إر.بي.جي» من الشرفة للشرفة، في حرب لبنان. ثم أصبح الكلاشنيكوف الوسيلة الأخوية الأثيرة للحوار في الحرب الأهلية الجزائرية. وحين نفدت الذخيرة، بعد عشرية كاملة من المساعي المخلصة لإصلاح المجتمع وإعادته إلى دين الله والطريق القويم، حلّت محلّه السكاكين والمطايا والفؤوس. وإذا بالأشقاء العراقيين ينيرون شمعة مباركة وسط هذا الظلام العربي المطبق، ليحققوا للأمة قفزة حضارية نوعية، عبر إرساء تقليد جديد يجعل التراشق بالأحذية وسيلة حوار عربية بديلة من رمي بعضنا بعضاً بالرصاص!
جاء الصحافي العراقي منتظر الزيدي إلى مركز الصحافة الدولية في باريس ليتحدث عن الواقعة المعروفة، التي أشهر خلالها جزمته في وجه (غير المأسوف عليه) الرئيس الأميركي السابق جورج بوش. في ما سبق، كان الصحافي يتبارى مع زملائه ليكون صاحب القلم الأشهر. لكن الزيدي باغت الجميع، لا الرئيس بوش فحسب، وانتزع ــــ بلا منازع ــــ لقب الصحافي صاحب الحذاء الأشهر عالمياً!
بتواضع جمّ، تحدث عن فعلته المشهودة، قائلا إنه لم يكن يبحث عن بطولة عنترية، بل فكّر فقط في وسيلة مقاومة رمزية تعكس شعوره بالقهر: «حين رميتُ حذائي في وجه الطاغية بوش، كان قد قتل من شعبي مليون شخص، وشرّد خمسة ملايين من الأرامل والأيتام. فأردتُ أن أقول لكل طاغية تسوّل له نفسه الاعتداء على بلد عربي أن مليون «منتظر» سيكون بانتظاره، لرشقه بالأحذية، إذا تعذّر رميه بالرصاص أو الحجارة»...
أضاف الصحافي العراقي، الذي يُعالج حاليا في جنيف، أنه كان يتوقع أن يُقتل بعد تلك الواقعة. لكنه نجا (من الموت)، وعرف ما هو أشدّ وقعاً وأكثر مرارة، حيث سُجن وذاق أعتى أصناف التعذيب على أيدي أزلام الحكومة (العراقية) الموالية للاحتلال.
كان ما رواه الزيدي مؤثراً جداً، وفتح حديثاً ذا شجون عن تقليد راسخ آخر في قاموس الحوار العربي ــــ العربي: الموهبة الخلاقة في ابتكار فنون التعذيب والإذلال والقهر! لكن زميله العراقي (في الصحافة ثم في مهنة التراشق بالأحذية!)، سيف الخياط، لم يثره في كلام الزيدي سوى تأييده لـ«المقاومة العراقية الباسلة ضد الاحتلال». فطلب الكلمة، وراح يرغي ويزبد: «تسمّون التحرير احتلالاً، والإرهاب مقاومة، وتتواطأون مع إيران وسوريا لإعادة الاستبداد!». ولم يكتف بالقول بل أتبعه بالفعل، وفاجأ الزيدي بإشهار حذائه، ورشَقَه قائلا: «خذ، هذا حذاء آخر لك»!
مثل الرئيس بوش، انحنى منتظر الزيدي برشاقة، ونجح في تفادي الضربة! لكن شقيقه التقط الحذاء، وهجم على مهاجمه، الذي كان الحرس قد أمسكوا به، وهوى على قفاه بالجزمة، كما يقول أشقاؤنا المصريون! عمّت الفوضى، وانقسمت القاعة بين مدافع عن المعتدي/ المدعى عليه ومطالب بالقصاص منه، في معركة طاحنة اشترك وتساوى فيها العرب والعجم! قلة نادرة جداً فقط بقيت على الحياد، ومنها بعض أصحاب الألسنة السليطة الذين اقترحوا التنسيق مع بان كي مون، لمدّ مركز الصحافة الدولية بـ«القبعات الزرق»، من أجل فكّ الاشتباك، في حال تنظيم حوارات عربية أخرى مستقبلاً!

العالم سيتذكّر أن هؤلاء العرب الذين يتراشقون بالأحذية ينتمون إلى أمة ابتكرت «السيارات المفخخة»



أحسّ الزملاء في «جمعية الصحافة العربية بباريس» بالقهر والعار, وخاصة أن الجزمة التي تفاداها الزيدي أصابت في الصميم شعار الجمعية الذي كان مثبتاً وراءه على المنصة! قاسمهم ذلك الشعور، السواد الأعظم من الصحافيين الحاضرين الذين أسفوا للمستوى المنحطّ الذي آل إليه الحوار بين الزميلين العراقيين، على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام وقنوات التلفزيون العالمية، التي ستتبارى، حتماً، في تناقل هذه الحادثة المشهودة التي تمثّل إضافة نوعية إلى الصيت العربي الراسخ في البهدلة!
أما أنا، فخرجتُ من القاعة مزهواً، رافعاً رأسي إلى الأعلى بشموخ واعتزاز! فقد كنت متقيناً، بالعكس، من أن على بقية الأمم أن تنظر إلينا بعين الشكر والامتنان، لما نتّسم به من روح التواضع وضبط النفس. فما من شك بأن العالم يتذكّر أن هؤلاء العرب الذين يتراشقون بالأحذية ينتمون إلى أمة ابتكرت «السيارات المفخخة»، وحوّلت طائرات النقل المدني إلى ذخيرة «حيّة» (بكل معاني الكلمة)، ويدرك بالتالي كم هم مجدّدون ومسالمون ومتحضّرون!
لا بد أن تأثر نشطاء حركات السلام العالمية كان بالغاً جداً، حيال ذلك المشهد الحواري والحضاري الذي يثلج الصدور. ولا أستغربُ أن يرشّح أحدهم منتظر الزيدي وزميله لجائزة نوبل للسلام!
* كاتب وصحافي جزائري مقيم في باريس

http://dl.free.fr/blQJF4wGm/muntaziral-zaidi.mov