تشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى تعرّض ما بين 600 إلى 800 ألف إنسان للإتجار سنوياً. لبنانياً، الرقم أقل من ذلك بكثير، لكنّه يتنامى بسرعة، وخصوصاً حين تجبر عاملات على ممارسة الدعارة، بغياب أي نصٍ قانوني يجرّم التجار، ويحمي الضحايا
محمد محسن
رغماً عنها، منحت ناتاشا (اسم مستعار) جسدها لزبونٍ في الملهى الليلي حيث تعمل. لا تريد ماله، ولا تروقها تحرشاته اليومية. بوضوح، لم تأتِ إلى لبنان لممارسة الدعارة. لكنها، بعد أسبوعين من بداية عملها كنادلةٍ في أحد المراقص، تحوّلت إلى دميةٍ في يد صاحب المرقص، يسيّر عملها كما تشتهي رغبات زبائنه. هكذا، باتت المسافة بين حرية ناتاشا وجسدها أطول من الأميال التي قطعتها الطائرة من أوكرانيا إلى بيروت، طمعاً في عملٍ يعيدها راتبه المتراكم إلى مقعدها الجامعي بعد عامين. العمل تحوّل من نادلةٍ إلى مومس تتحرك على وقع التهديد، والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية. هي خاضعة لما يسمّى «الإتجار بالبشر».
للوهلة الأولى، حين نتحدّث عن قضية بهذا الحجم، تتبادر إلى الذهن، فوراً، تجارة الأعضاء البشرية، أو تمرير الأطفال عبر الحدود وبيعهم في دولٍ أخرى، بعيداً عن عائلاتهم. لكن قصة ناتاشا مختلفة عن هذه الحالات. شبيهة بكثيراتٍ يخشين إبلاغ القوى الأمنية عمّا يواجهنه من معاناة. هنّ ضعيفات جداً، ومكرهات على ممارسة الدعارة. وإن رفضن ذلك، فالحل بيد الكفيل الذي استجلبهن من بلادهن: حجز جواز السفر، منع التواصل مع العالم الخارجي بكل الوسائل، حرمان من الماء والطعام والدواء لفتراتٍ طويلة. هذا ما رأت ناتاشا بعضاً منه، قبل أن ترضخ لحكم صاحب الملهى الذي تعمل فيه حالياً. يوم جاء زبون من دولةٍ عربية، تحرّش بها، فأبلغته أن مهمتها نادلة لا أكثر. أغاظه جوابها، فطلب من صاحب المرقص ليلةً معها مقابل المبلغ الذي يريده. تجاهلت طلب صاحب المرقص، ولم تلبّه. قررت ترك المرقص بعد شعورها بأن عملها بات يتحول إلى مومس، لكن الأمور لم تسر وفق إرادتها. حجز الكفيل جواز سفرها، وعرضها على زبونٍ آخر، فرفضت مجدداً، فما كان منه إلّا أن حبسها في غرفةٍ صغيرة من دون مأكل أو مشرب. وبعد فترة ليست طويلة، رضخت ناتاشا، وبدأت بممارسة الدعارة. حتى الآن، هي خائفة من إبلاغ القوى الأمنية عمّا تعرضت له، وتتعرض له زميلاتها في المرقص. تملّكها الخوف حين عرضنا عليها إبلاغ القوى الأمنية «لا تفعلوها. لم يبقَ لي سوى ثلاثة أشهر وأعود إلى بلدي. لا أستبعد أن يؤذيني إذا أبلغت عن ممارساته» تتحدث عن صاحب المرقص الذي يتاجر بجسدها.
في مكانٍ آخر من بيروت، تجهد سلمى (اسم مستعار لفتاة من جنسية عربية) لإظهار آثار الكدمات علي يديها. حين رفضت ممارسة الدعارة، لم يتوانَ صاحب المنزل، الذي ظنّت أنها ستكون فيه كباقي العاملات، عن ضربها وشدّها من يدها بقسوة، نحو الغرفة حيث ينتظرها رجل كبير السن «اتفق مع صاحب المنزل وانتظرني في الداخل عارياً». تعرضّت للاغتصاب، وخصوصاً أنها قاومت تحرّشاته. ضربته على وجهه، لكن حدود مقاومتها لم تتجاوز هذا الحد.

رفضت ممارسة الدعارة فضربها وعرّضها للاغتصاب رغم مقاومتها
منطقياً، المطلوب في هذه الحالات، هو التواصل مع الجهات الأمنية المعنية. لكن غياب هذا التواصل، يُعدّ من أبرز العوامل التي تسهم في تفاقم هذه الحالات. والأسوأ من ذلك هو ما تتعرّض له ضحايا هذا النوع من الإتجار بالبشر داخل أروقة القضاء اللبناني، إذ يحاكمن، وخصوصاً العاملات في الملاهي منهن، على أنهن يمارسن الدعارة خلافاً للواقع، إذ تنتفي تهمة الدعارة حين يكون الفعل حاصلاً بالإكراه، وهو من بديهيات القانون.
في لبنان، لا نص قانونياً يعاقب على جرم «الإتجار بالبشر» على الرغم من توقيع الدولة اللبنانية عام 2005 «بروتوكول الأمم المتحدة لمنع الإتجار بالأشخاص وقمعه والمعاقبة عليه، وبخاصة النساء والأطفال»، المكمّل لـ«اتفاقية الأمم المتحدة عبر الوطنية». وعالمياً، يشير البروتوكول إلى أن المقصود بالإتجار بالبشر هو «تجنيد أشخاصٍ أو نقلهم أو إيواؤهم بواسطة التهديد بالقوة أو استعمالها أو غير ذلك من الاختطاف أو الاحتيال (...) أو تقاضي مبالغ مالية أو مزايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر لغرض الاستغلال». أمّا بالنسبة إلى تعريف الاستغلال، فتتصدر الدعارة والاستغلال الجنسي عناوينه، إضافةً إلى الاسترقاق أو نزع الأعضاء وبيعها من دون إذن صاحبها. ومع كل هذا، لم يشهد قانون العقوبات اللبناني أيّ تحركٍ في هذا المجال، على الرغم من إجبار البرتوكول الأممي الدول الموقعة عليه على تغيير نصوصها وتجريم هذا العمل. كذلك، يبدو التحرك سهلاً إذا اتخذ القرار، إذ إن القانون يجرّم معظم العناصر المؤدية إلى الإتجار بالبشر، ويظهر ذلك بوضوح في المواد 524 و525 و527 من قانون العقوبات، التي تعاقب من يهدد أو يستعمل العنف لإكراه امرأة أو فتاة على ممارسة فعل منافٍ للحشمة، بغرامةٍ مالية وبالسجن لمدة قد تطول إلى عامين.


مخبرون للإبلاغ عن حالات إتجار

يشير الرائد أسمر إلى أن أهم عناصر كشف جريمة الإتجار هو اعتراف الفتاة وتبليغها عن معاناتها. ويلفت أسمر إلى إجراءاتٍ جديدة تراعي معايير حقوق الإنسان تجري بالتنسيق مع النيابة العامة، وهي تسهّل عمل المكتب في «الاقتراب من هذه الفئات المستضعفة». إذ بعد لجوئهن إلى مكتب حماية الآداب أو القبض عليهن، تُنقل الفتيات المتاجر بهن (بعد ثبوت ذلك) إلى دور الرعاية الاجتماعية، ريثما تنتهي المعاملات القانونية لدى القضاء، والإدارية لدى الأمن العام، ليُعَدن إلى بلدانهن بناءً على طلبهن. كذلك، يوصي أسمر بإجراءاتٍ تسهم في الحد من هذه الظاهرة، أبرزها ما يقوم به «مكتب حماية الآداب» من مداهمات منظمة وفجائية للفنادق والمرابع الليليلة، إضافةً إلى تقوية شبكة المخبرين للإبلاغ عن حالات الإتجار.


لقطة

يشير رئيس «مكتب حماية الآداب» الرائد إيلي أسمر إلى ندرة الحالات المكتشفة تحت خانة الإتجار بالبشر، فمن شهر أيار حتى أواخر تشرين الأول قبض عناصر المكتب على 8 حالات فقط. ويرد أسمر ندرة هذه العمليات، إلى خوف الفتيات من كفلائهن، الذين يعذبونهن ويتفقون مع بنات أخريات على إنكار وقوع التعذيب أو الإكراه على ممارسة الدعارة، وهو ما يضعف موقف الفتيات اللاتي يتعرضن للإتجار، كما أن غياب النصوص القانونية يمنع هذا الأمر أيضاً. أما الحالات التي يضبطها المكتب، فأغلبها حدث أثناء مداهمات النوادي الليلية، حيث تتمسك الفتيات بالأمن كطوق نجاة، أو في حالاتٍ أخرى يلجأن إلى سفارات دولهن ويشرحن المعاناة.