ناهض حتر* سذاجة قراءة سمير جعجع (القوات اللبنانية) للوثيقة السياسية الصادرة عن حزب الله ضرورية لتلقي صدمة التحوّل الوطني في منظور الحزب. هذا التحوّل ــــ وهو ليس جديداً بالطبع، لكنه الآن مكتوب في وثيقة حزبية ــــ يمنح الخصم المسيحي للقوات (التيار الوطني الحر)، المزيد من الصدقية: تحالف الحزب والتيار تخطّى الممارسة السياسية إلى الفكر السياسي. فوثيقة حزب الله تنسجم جوهرياً مع وثيقة التفاهم الشهيرة بين الحليفين.
المفارقة المثيرة أنّ تلقي جعجع الأولي للوثيقة لا يختلف عن تلقي الفكر السلفي السني لها. فأنت تقرأ مثلاً في موقع «إسلام أونلاين»، هجمة على وثيقة حزب الله تربطها بالتقية، وتعتبر أنها ضرب من الكذب يزوّق به «روافض» مرتبطون بإيران ولاية الفقيه. وهو نفسه موقف جعجع المصاغ، بالطبع، بعبارات أخرى.
لا معنى لتأكيد جعجع (وسواه) في تجديد الربط بين حزب الله ونظرية الولي الفقيه. إذ لا معنى، سياسياً وحزبياً، لإيمان حسن نصر الله ورفاقه بولاية الفقيه طالما أنه لا علاقة اشتقاق، أو حتى علاقة قرابة فكرية، بينها وبين الوثيقة الحزبية المرجعية التي تعكس العقل الجمعي للحزب، وتعلن التزاماته السياسية.
المصادر الفكرية لوثيقة حزب الله تخلو كلياً من أية مرجعية شيعية أو حتى إسلامية أو حتى دينية. مصادرها، بالعكس، علمانية بالكامل.
1) ففي مقاربة الوثيقة لفهم الصراع الكوني، لا تراه بين معسكرين دينيين أو حضاريين، بل تراه بالاستناد إلى المرجعية اليسارية الأممية بين معسكر الاستعمار والرأسمالية المتوحشة من جهة، ومعسكر الشعوب المستضعفة والطامحة إلى التحرر والنهوض من جهة ثانية. وفي هذا السياق بالذات، تحدد الوثيقة الموقف من إسرائيل، لا من منظور ديني ولا حتى من منظور قومي، بل من منظور يساري، يراها بوصفها أداة للإمبريالية، ويرى أفولها في مجرى أفول الإمبريالية والرأسمالية العالمية وكمحصلة له. وتستقي الوثيقة، في ذروة يساريتها، المرجعية الأممية بشأن ضرورة التحالف بين القوى المعادية للإمبريالية والرأسمالية على صعيد كوني، بغض النظر عن الحدود القومية والحضارية والدينية الخ.
2) لكن المرجعية اليسارية تنتهي مفاعيلها عند حدود لبنان، لتبدأ وثيقة حزب الله السياسية تستقي من المرجعية الدولتية البورجوازية العلمانية للثورة الفرنسية في توصيف الدولة المطلوبة من الحزب: الحريات والتعددية والعدالة وحقوق المواطنة في إطار الدولة الوطنية «القوية»، سواء من حيث قدرتها الدفاعية أو من حيث قدرتها على تلبية حقوق المواطنة الاجتماعية والخدمية والإنمائية.
ولا نريد هنا تكرار نصوص الوثيقة في الشأن الداخلي، بل نشير إلى أنها تقع كلها، من حيث المرجعية أو الأفق، في النظرية السياسية الفرنسية مع تعديلين واقعيين لا يستطيع حزب الله تخطيهما في الواقع اللبناني العياني، وهما: الطائفية السياسية، ووجود ميليشيا عسكرية خارج الجيش الوطني. وسنلاحظ هنا أن المبررات التي تسوقها الوثيقة لمعالجة هذين التعديلين على المرجعية الدولتية البورجوازية الفرنسية، لا تستند إلى مرجعية أخرى، بل تنطلق من الاعتذار بأن الواقع اللبناني الراهن لا يسمح بإزالة التشوّه الديموقراطي المتمثّل بالطائفية السياسية، فتقترح «الديموقراطية التوافقية» حلاً مؤقّتاً. كذلك، فهي لا ترى في سلاح المقاومة ضرورة فكرية أو عقائدية، بل ضرورة واقعية، فتقترح صيغة دفاعية وطنية تجمع الجيش الوطني والمقاومة إلى أن تنشأ ظروف العودة إلى الأصل، أي تولي الجيش الوطني منفرداً مهمات الدفاع. وتتمثل هذه الظروف تحديداً في قيام الدولة الوطنية بالمواصفات المحددة في النظرية الفرنسية.
3) وفي مقاربة لبنان وطناً وهويّة، تستقي الوثيقة من المرجعية الفكرية للوطنية اللبنانية التقليدية. ولا يهم هنا النص على أن لبنان «وطن نهائي»، بل في جوهرية نهائية الوطن اللبناني، سواء في العلاقة مع إسرائيل أو مع سوريا.
(أ) فوثيقة حزب الله ترجع إلى ميشال شيحا في تعريف العداء الإسرائيلي للكيان الوطني اللبناني، بكون الأخير، في صيغته

تفتقر الوثيقة إلى النسق البنيوي الداخلي وهي تقوم على انتقائية بلا رباط يجمعها منطقياً، ولا ترابط ينظمها سياسياً

اللبنانية القائمة على العيش المشترك بين الأديان والطوائف والمؤثرات الثقافية المتعددة، هو النقيض للكيان الإسرائيلي في صيغته العنصرية الدينية الواحدية اللاتعددية. أي إن الوثيقة تقر ــــ على عكس القوات اللبنانية ــــ تعريف منظّر الكيانية الوطنية اللبنانية للميزة الفارقة للبنان الذي تعاديه إسرائيل لأسباب واقعية دنيوية تتعلق بأطماعها في أرضه ومياهه ومنافسته على دوره الإقليمي.
(ب) وإذا كانت الوثيقة تؤكد هوية لبنان العربية، فهي لا تعني أكثر من ذلك المعنى عند البورجوازي الوطني الماروني التقليدي الذي يرى إلى العلاقة مع سوريا بوصفها «ضرورة أمنية واقتصادية وجغرافية»، لا بوصفها، كما هي عند السوري القومي، قضية وطن واحد ممزق، أو عند القومي العربي قضية وحدة. إنها، تلك العلاقة، تندرج في المفهوم الكياني اللبناني لا في مفهوم إسلامي أو قومي. وهذا هو ما جعل الحزب لا يتعدى في بحثه الشأن العربي حدود سوريا التي تقع العلاقة معها في سياق واقعي لا في سياق مفهومي أو عقائدي.
(ج) وهكذا، نفهم لماذا لم يتوقف الحزب عند العراق إلا في الجزء المتعلق بتحليل «المشروع الأميركي في المنطقة»، ولم يتطرق إلى العلاقة مع العراق أو يبحث القضية العراقية بالصلة مع لبنان أو بالصلة مع تحالفات المقاومة. ونحن نعتقد أن هذا التجاهل ينسجم تماماً مع لبننة عميقة الغور، لا يستطيع منظور طائفة لبنانية أقلوية على المستوى العربي تجاوزها، سواء أكانت مارونية أم شيعية أم درزية (فيما العروبة تقع بالضرورة، وبغض النظر عن الاتجاه السياسي، في وعي الطائفتين السنّية والأرثوذكسية الممتدّتين عربياً).
(د) وبغض النظر عن العلاقات التحالفية المتعددة والعميقة بين حزب الله وإيران، فإنه من الجوهري ملاحظة أن وثيقة الحزب السياسية لم تسق أي مبرر عقائدي لتلك العلاقة، بل اكتفت، لتبريرها، بالمواقف الإيرانية الإيجابية من القضية الفلسطينية ومن دعم المقاومة، ما أتاح للأخيرة تحقيق انتصارات. أي إن الوثيقة بحثت تلك العلاقة من المنظور السياسي والعملي، لا من منظور وحدة الأمة أو من أي منظور ديني أو مذهبي.
دققنا إذاً بالمصادر والمرجعيات الفكرية للوثيقة السياسية الحزبية الصادرة عن حزب الله بوصفها إطاراً لسياساته. ووجدنا أنها تدور حول ثلاث مرجعيات: يسارية في ما يتعلق بالصراع العالمي، وبورجوازية وطنية ديموقراطية في ما يتعلق ببناء الدولة، ولبنانية شيحاوية في ما يتعلق بالكيان اللبناني ومكانته ودوره في المنطقة. وهذه كلها مرجعيات علمانية. وبناءً عليه نستطيع أن نقرر أن وثيقة حزب الله تنقله من الأيديولوجيا الدينية إلى الأيديولوجيا الوطنية البورجوازية في صيغتها التنويرية اللبنانية. ويعبّر هذا الانتقال الفكري الجذري عن نجاح المشروع الخاص بالطائفة الشيعية في لبنان. فهي انتقلت من موقع المظلومية والتهميش والقهر إلى موقع تحقيق الذات، ديموغرافياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. وإذا كان من المفهوم أن يطلق، عام 1985، مجاهدو حزب الله المهمشون والمستضعفون، المرتبطون بطائفة تعاني اضطهاداً مزدوجاً إسرائيلياً وداخلياً، صرخة احتجاج مذهبية عقائدية راديكالية معادية للدولة والنظام اللبنانيين، فإنه من المفهوم أيضاً، أن يلجأ قادة الحزب المنتصر على إسرائيل، والمنتقل بالطائفة من الهامش إلى المتن اللبناني، إلى مزيج أيديولوجي يعبر عن الموقع القيادي الجديد للطائفة والحزب. على أن ذلك ليس تحصيل حاصل، بل هو مرتبط بحجم التضحيات وحجم النجاحات وعلوّ همة الزعامة المتمثلة في قائد من طراز تاريخي كحسن نصر الله. وثيقة حزب الله ليست تنازلاً منه، بل تأكيد لانتصاره الخارجي والداخلي، مأخوذاً من منظور تصالحي وقيادي على المستوى الوطني. وهذا، بلا ريب، ليس مساراً حتمياً، بل مسار صعود اختارته قيادة حزب اللّه لتثمير كفاح الحزب وإنجازاته، من خلال إدراك حدود القوة وحدود النجاح. وكلاهما كان يمكن المقامرة بهما باستخدامهما بالدفع نحو مشروع انعزالي وتسلّطي وواحدي. ما وقعت به بالضبط القيادات الشيعية العراقية منذ 2003. والفارق يكمن في الأساس. فبينما حقّق الشيعة اللبنانيون إنجازاتهم ضد الدبابات الإسرائيلية، وصل أهل المظلومية العراقية إلى السلطة بواسطة الدبابات الأميركية.
على أن وثيقة حزب الله، كما رأينا، تفتقر إلى النسق البنيوي الداخلي. وهي تقوم على انتقائية تنضيدية بلا رباط يجمعها منطقياً، ولا ترابط ينظمها سياسياً، سوى خدمة العلاقات والأهداف الحزبية المتناقضة. وهنا نلاحظ الآتي:
ــــ أوّلاً، إن رؤية الحزب اليسارية للصراع على المستوى الدولي بوصفه صراعاً ضد الاستعمار والرأسمالية المتوحشة، وما تفترضه تلك الرؤية من تحالف القوى المضادة، لا يقود إلى نتيجته المنطقية في تصوّر دولة تعبّر عن مصالح الفئات الشعبية والكادحين في لبنان، أو حتى تصوّر برنامج اجتماعي تقدمي يرتكز على قطاع عام إنتاجي، أو حتى اتخاذ موقف نقدي مضاد للرأسمالية الكمبرادورية اللبنانية، اللهمّ ما عدا إشارة خجولة إلى ضرورة التركيز على الزراعة والصناعة كأولوية اقتصادية، ما يُفهَم منه نقد ضمني لطبيعة النشاط الكمبرادوري، التجاري والعقاري والخدمي، في لبنان. وبالتالي، نفهم خلوّ الوثيقة من الدعوة إلى التحالف مع القوى اليسارية اللبنانية.
ــــ ثانياً، إنّ ما ركّزت عليه الوثيقة من علاقة لبنان المميزة والكفاحية بالقضية الفلسطينية، والتأكيد على رفض التسويات وضرورة الوصول في الصراع مع الكيان الصهيوني إلى نهايته، لا معنى له، فكرياً وتاريخياً، من دون تصوّر شامل للعلاقة القومية بين لبنان وسوريا وفلسطين والأردن، بوصفها تنتمي، جغراسياسياً واجتماعياً وأمنياً وتنموياً ووجودياً، إلى مشروع واحد، ممتد في عمقه العراقي، يتناقض جذرياً مع المشروع الإسرائيلي. إن تجاهل هذا المدى الاستراتيجي يفقر الأسس المنهجية والتاريخية للصراع مع إسرائيل، ويضع الإلحاح على ذلك الصراع في منظور إقليمي لتنافس القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة (إيران، تركيا، إسرائيل).
ــــ ثالثاً، إن البحث في صيغة لبنانية للدولة والإنماء والقوة من دون أفق الارتباط العضوي بسوريا، يغدو تكراراً للأوهام البورجوازية اللبنانية التقليدية عن إمكانية تأسيس بنية اقتصادية ــــ اجتماعية ــــ سياسية وطنية ومتجذرة في لبنان بمعزل عن ترتيب علاقة عضوية مع سوريا.
ــــ رابعاً، بينما تصرّح الوثيقة بشأن التحالف الممكن مع يسار أميركا اللاتينية، فإنها تتجاهل التحالف الضروري مع المعارضات العربية، وبصفة خاصة مع المعارضة والمقاومة في العراق. ومن المدهش أن الوثيقة التي تلح على خطر الانقسام المذهبي في المنطقة، تتجاهل القضية العراقية. ولا يمكن تفسير هذا التعويم إلا بالرغبة في تلافي السجال (الضروري) حول سياسات إيران التي لعبت وتلعب دوراً رئيسياً في تفتيت المجتمع العراقي على أساس مذهبي، في إطار أجندة السيطرة على جنوب العراق ونهب ثرواته. إن تفجير الصراع المذهبي السنّي ــــ الشيعي يقع، بالطبع، في صلب المشروع الأميركي ــــ الإسرائيلي. وقد لعبت السلفية الوهابية دوراً كبيراً في إشعاله، لكنّ إشعاله لم يكن ممكناً لولا النهج الإيراني التوسعي في العراق.
ــــ خامساً، بينما بدأت الوثيقة بتحليل كوني يُظهر ترابط القضايا والقوى في الصراع العالمي، فإنها تتجاهل الترابط المماثل على المستوى العربي والإسلامي، ولا تشير إلى الأفق الذي فتحه التحوّل التركي نحو الشرق من إمكانيات بناء منطقة تعاون إسلامي ــــ عربي يتجاوز الانقسامات الإثنية والقومية والمذهبية، يتأسس من مربّع تركيا ــــ سوريا ــــ إيران ــــ العراق.
* كاتب أردني