لم «ينل» البيان الوزاري الثقة بعد، ولكنّ المواطنين اللبنانيين حسموا مصيره: إلى الأرشيف. جولة واحدة في الشارع تكفي لقياس درجة اليأس لدى الناس من بيان «لن يتحقّق منه أي شيء». أمّا تحليلهم، فينبع من «الخبرة» التي راكموها على مدى عشرات السنوات، من خلال متابعتهم للبيانات الوزارية الممتدة منذ حكومة الاستقلال حتى ما يناقَش اليوم
راجانا حمية
في الوقت الذي كان فيه رئيس الحكومة، المنتظرة للثقة، سعد الدين الحريري يتلو البيان الوزاري أمس، كان ألبير الميكانيكي «عم يكيّف» أمام محلّه في شارع الحمرا. على غير عادته «كيّف» ألبير هذه المرّة باكراً. فقبل حلول العاشرة صباحاً، كان قد فرغ من شرب «كأسه الثالثة» من البيرة. لم يفتح الرجل هذا الصباح محلّه. أبقاه مقفَلاً، وجلس خارجاً يتفحّص العابرين أمامه. يبادل ابتسامهم ونظراتهم المستغربة في بعض الأحيان برفع الكأس عالياً.
كنا من بين العابرين أمامه. كرّر الرجل المشهد نفسه. رفع الكأس عالياً، وأرفق حركته بابتسامة ظاهرة. دفعنا ردّ الفعل هذا إلى التوجّه إليه بالسؤال الذي امتنع الكثيرون عن الإجابة عنه: «شو رأيك بالبنود التي وردت في البيان الوزاري؟ وهل أنت متفائل بإمكان تحقيقها؟».
تغور ابتسامة البير بطريقة يبدو لنا معها أننا طيّرنا له السكرة. لا يجد ما يقوله سوى: «خلّيني مكيّف مثل ما أنا الله يخليكي».
حال البير الذي لم يُردالتصريح بأكثر من اسمه الأول، كحال العابرين في الشوارع، والجالسين أمام شاشات التلفزة، يتابعون ما «ستعمل» على تحقيقه الحكومة الجديد. فأغلب من سألناهم، تجمع إجاباتهم قلّة الحماسة واللامبالاة واليأس من حكومات وبيانات وزارية «بعدها على الموضة القديمة، كل شي صار على الموضة إلا البيان الوزاري، كل أربع سنين بنعيد نفس الكلام، ويا ريت عم نحققهم»، يقول الرجل السبعيني، فاروق دكروب. لا يأمل الرجل كثيراً بقدرة الرئيس الجديد على تحقيق بنود البيان. ويبرّر رأيه بالقول: «أول بيان وزاري وضعه والده الرئيس رفيق الحريري الله يرحمو، وعدنا بتحقيق بالربيع، وما زلنا ننتظر ذاك الربيع منذ أوائل التسعينيات». لكن، ماذا عن «ربيع» الابن؟ فهل يمكن أن يحصل فيه شيء؟ يبتسم دكروب للسؤال، ثم يبادر قائلاً: «لن يتحقّق شيء، فالج لا تعالج».
هلق عن جد مصدقين إنّو البيان الوزاري بيهمنا؟
لن يكون رأي دكروب استثناءً في جولة جسّ نبض المواطنين تجاه مرحلة ما بعد البيان الوزاري، فعلى ما يبدو أن أفكاره باتت أشبه بـ«ماركة مسجّلة» يتلوها الجميع عن ظهر قلب بمجرّد كبس الزر وقول كلمة: «بيان وزاري». الاختلاف الوحيد هو الطريقة في إيصال الفكرة. لا أكثر ولا أقل. فبائع الجرائد نعيم صالح، مثلاً، يؤيّد «ميّة بالميّة» رأي دكروب، لكن على طريقته. يقول صالح: «إذا سألتِ الأربعة ملايين في لبنان فسيجيبون الإجابة نفسها: لا يهمنا البيان الوزاري لأنه لن يتحقق منه بند واحد». لا بل إن الرجل يرد إلينا سؤالنا، فيسأل «هلق عن جد مصدقين إنه البيان الوزاري بيهمنا؟». ثم يبدأ بتعداد بعض البنود «العاصية» «كإلغاء الطائفية السياسية» والأخرى «المضحكة»، كما وصفها مثل «مكافحة الفقر. رح يوزّع علينا مصاري يعني؟». لا يبدو الرجل مقتنعاً بأيّ شيءٍ في البيان، كما هو غير «مقتنع بالبلد أساساً». أما السبب، فهو «الخبرة التي اكتسبناها منذ حكومة الاستقلال حتى الآن، فجميعها صاغت بيانات وزارية، غير أن شيئاً لم يتحقّق: الفساد هو نفسه والفقر والبطالة والكذب إلى تفاقم».
باختصار، «ضحك على الدقون». كما يحلو لبائع اليانصيب وصف البيان. يخاف البائع من ذكر اسمه لأسباب «معيشية»، لكنّه لا يخاف القول إن «البيان فارط، لن يتحقّق شيء منه».
تسلّل اليأس سريعاً إلى النفوس، حتى قبل أن ينال البيان الثقة. فالكلّ مجمع على استحالة تحقيق أيّ من البنود الواردة فيه، «حتى سعد الدين الحريري نفسه»، كما يقول أحدهم. لهذا السبب، لم تختلف أمس شوارع بيروت عن حالها في الأيام العادية. لم تعكّر تلاوة البيان الوزاري هدوءها الصباحي. يتوزّع الناس بين منصرفٍ إلى أعماله، أو متسكّع في الشارع يشرب قهوته الصباحيّة. ومن لم يجد ما يشغله، جلس أمام شاشة التلفاز لمتابعة البيان، «لأنّو ما في برامج إلّا هوّي»، تقول مريم عجمي.
ولئن كانت عجمي مسكونة بهاجس «الخوف من أن يكون البيان كغيره غير قابل للتنفيذ»، فإنّها «تأمل بعض الشيء برئيس الحكومة». تأمل «تحسّن الأوضاع المعيشية وحال الطرقات». لكن، مريم المتفائلة، الوحيدة في العينة التي استطلعناها، تسجّل بعض «العتب» على البيان الوزاري، الذي لم يخُض في التفاصيل «التي تهمنا مثل مراقبة عمل وزارة الصحّة وتأمين فرص العمل».
يقولون العتب على «قد المحبّة»، لكن عتب مريم هو «من كتر ما انكوينا من البيانات السابقة، بتنا نتطلّع لاهتمام مغاير». ثمّة من يعتب أكثر. تؤلمه الشعارات المتكرّرة التي ترد في كل بيان يُصاغ كل أربع سنوات. يحتاج الرجل إلى غيرها. يحتاج إلى أن يعرف كيف "سيتدفّأ أطفالي في ظلّ الارتفاع الجنوني بأسعار المازوت، وكيف سنشرب إذا كنا نفتقد المياه الصالحة للشرب، ونضطر إلى شراء قنينة المياه بألف ليرة، وعلبة اللبن الصغيرة بأربعة». يريد الرجل، الذي يرفض ذكر اسمه، أن يسعفه «سعد بهذه الأمور». يريد منه أن «يعمل» لا «سَ...أعمل».
لكن «مش أيّ عمل»، يقول يوسف نصر الله. باختصار، «نحتاج إلى عمل مفيد، لا على طريقة تزفيت الطرقات قبل الانتخابات، وعندما يحتلون الكراسي يقولون باي باي». يبتسم، ثم يسأل «ماذا بعد الثقة؟»، ويجيب نفسه بحسرة: «يقولون لنا باي باي».
اليأس من البيان الوزاري «طرش» نفسه على جدران الشوارع أيضاً. فأمتلأت جدران رأس بيروت بشعارات تدعو الحكومة إلى الالتفات لأحوال الناس المعيشية. وهي دعوات نشرها «اتحاد الشباب الديموقراطي»، مثل «إلغاء الرسوم عن البنزين فوراً» و«زيادة الضرائب مش على ظهر الفقير». أما أطرفها، فهي شعار «بالديمقراطية التوافقية صار البرّاد نملية».