ماذا تعمل البلديات؟ وكيف؟ يبدو السؤال بديهياً، لكن محاولة الإجابة عنه تكشف أن عمل هذه السلطات المحلية يكاد يكون أشبه بعمل مراكز الإغاثة التي تفتقر إلى الإمكانات، وأبسطها دعم السلطة المركزية لها، أو على الأقلّ التنسيق معها وعدم العرقلة كما يحصل حالياً. أمثلة من المناطق تكشف صعوبة العمل في ظلّ تزايد الحديث عن اللامركزية!
مهى زراقط
لا يكاد يخلو تصريح لرئيس الجمهورية ميشال سليمان من الحديث عن اللامركزية الإدارية، ورغبته في إقرارها. ويبدو أن مهمة تنفيذ هذه الرغبة موكلة إلى وزير الداخلية والبلديات زياد بارود الذي أعدّ وثيقة عمل تمهيدية لصياغة مشروع قانون قابل للتطبيق، قال لـ«الأخبار» إنها أُنجزت وتحوّلت إلى الطباعة تمهيداً للإعلان عنها.
معروف أن المعني الرئيسي في إقرار قانون اللامركزية، هو البلديات، التي تؤلّف إدارات محلية مرتبطة بتفاصيل الحياة اليومية للمواطنين، ويفترض أنها تتمتع باستقلال إداري ومالي عن السلطة المركزية. لكن هذه البلديات التي تنعم بقانون يتيح لها حرية حركة واسعة، تغرق تحت وطأة مجموعة من العوائق أبرزها التعاميم التي تبطل عمل القانون بناءً لرغبات سلطة الوصاية والراقبة المسبقة، عدا العرقلة الناجمة عن غياب التنسيق مع الإدارات المعنية. عوائق توحي بأن المطلوب ليس سنّ قانون جديد، بل توافر إرادة تطبيق القانون الموجود أصلاً...
كيف يتجلى هذا الأمر في الممارسة؟ وما هي المشاكل التي قد تحلّها اللامركزية؟
أمثلة عملية يقدّمها رئيس بلدية الغبيري محمد سعيد الخنسا، ونبدأ من الصرف الصحي. يشرح الخنسا: «هناك مجار خاصة بالمنطقة التي نحن فيها، وأخرى تابعة لمناطق أخرى تمرّ عندنا. من مسؤولية الدولة أن تقيم مشروعاً يستوعب كل هذه الحالات ولا يؤثر على حركة البلدة التي يمرّ فيها، لكن هذا لا يحصل. لذلك، أخذنا على عاتقنا مهمة معالجة الوضع جذرياً لكننا، بصريح العبارة، تدخلنا في مواقع ليست من صلاحياتنا حتى حللنا مشكلاتنا».
يتدخل الخنسا في مواقع ليست من صلاحياته
هذا ما حصل قبل أسبوعين في منطقة السلطان إبراهيم حيث «لاحظنا أنها تتعرض دائماً لفيضانات غير مبرّرة صيفاً شتاءً. حللنا كل مشاكلنا المحيطة بهذه المنطقة لكن فوجئنا بأننا لا نزال نعاني من المشكلة نفسها في نقطة معينة. اضطررنا لأن ننزل عمّالاً ساروا داخل قناة المجاري مئات الأمتار، حتى اكتشفوا وجود حائط يمثّل سداً لأن الدولة لزّمت العمل قبل 10 أو 11 سنة لأحد المتعهدين، ولم تنتبه عند الاستلام إلى وجود عوائق معينة». لم يكن أمام الخنسا بديلاً من «تجاوز صلاحياته» لأنه «إذا بدي أنتظر الوزارات المعينة والأجهزة، بتفيض المنطقة عندي. أنا تدخلت حفاظاً على أمن المواطن وسلامته». هنا تبرز أهمية اللامركزية: «في حال إقرار القانون تكون هذه الأمور من صلاحياتنا».
مثل ثان أكثر وضوحاً عن تداخل الصلاحيات والمسؤوليات، نجده في إنارة الشوارع الرئيسية. يقول الخنسا: «الكهرباء على الطرق الدولية هي قانوناً على نفقة وزارة الأشغال. لكن ما يحصل في الواقع، هو تحويل وزارة الكهرباء الفاتورة إلى البلديات وهذا مخالف للقانون»، مشيراً إلى أن «المرة الوحيدة التي أنيرت فيها الأنفاق على نفقة الوزارة كانت في عهد الوزير غازي العريضي». اللامركزية تحلّ هذه المشكلة أيضاً: «يفترض أن تكون هناك شفافية مطلقة عن المبلغ الذي تستحقه البلديات من ضرائب الأملاك؟ من عائدات الكهرباء؟ حالياً لا أحد يعطينا كشفاً كم لنا وكم علينا؟ لقد أرسلت 3 رسائل إلى الشركة ولم يجيبوا».
من هنا يدخل الخنسا إلى الحديث عن «الفوضى المالية في حركة اقتطاع أموال البلديات، التي تبرز بروزاً فاضحاً في موضوع نفايات منطقة بيروت الكبرى». مجدداً أن المشكلة سببها المركزية، إذ يوضح الخنسا: «اتخذ مجلس الوزراء قراراً منذ سنوات بتلزيم شركة معينة (سوكلين) مهمة جمع النفايات، على أن تحسم الحكومة الكلفة من أموال البلديات الواقعة ضمن نطاق عمل الشركة. يجري هذا الأمر من دون الرجوع إلى البلديات ومن دون أي رقيب منها، علماً بأنه من حق كلّ بلدية أن تحصل شهرياً على كشف تفصيلي عما يتوجب عليها وكيف، لكي تبدي رأيها فيه». المشكلة الإضافية أن «الدولة لم تؤمن مكبات، وتركت الأمر بعهدة الشركات فأصبحت منطقة بيروت الكبرى مرتهنة لهذا المكان الذي حدّدته الشركة مع الحكومة، ولا يسمح للبلديات أن تستخدم المكب ذاته إذا أرادت أن تستخدم فرقاً على نفقتها الخاصة».
قد تستغرق المعاملات الإدارية 5 أشهر
المثل الأخير الذي يقدّمه الخنسا هو عن غياب التنسيق بين الإدارات المعنية قبل تنفيذ أيّ مشروع. يقول: «إذا كانت البلدية على دراية ووعي، تستطيع، قبل تنفيذ أي مشروع في نطاقها العقاري، أن تتواصل مع الإدارات المعنية، مثل المياه والكهرباء والهاتف، من أجل تمديد المعدات اللازمة بالتزامن مع أي مشروع حفريات تنوي إحدى تلك الإدارات تنفيذه في المنطقة، وبذلك توفر عليها إعادة حفر المنطقة مرتين أو أكثر». هذا من حيث المبدأ، وهو يطبق عملياً «بنسبة عالية» يقول الخنسا، لكنه يقرّ بوجود «أخطاء كثيرة من خلال تنفيذ الوزارات المعنية بعض مشاريع المياه والكهرباء بعد أن نكون نحن قد أنجزنا البنية التحتية». مؤكداً أن البلدية تسألهم قبل مباشرة أعمالها لكي لا يحصل تضارب «لكنهم إذا لم يكونوا جاهزين ينفون وجود مشاريع، وعندما ننجز عملنا يقررون أن يبدأوا هم».
وهذا ما يفسر وجود الكثير من أعمال الحفر حالياً في طرق الغبيري التي شهدت أعمال حفر قبل وقت قصير والسبب «سوء التنسيق الإداري بين مؤسسات الدولة اللبنانية».
تضاف إلى كل هذه الأمثلة، مشكلة التأخير في إنجاز المعاملات الإدارية. وإذا افترضنا حسن النية، بمعنى أن العرقلة إدارية وليست سياسية كيدية كما يحصل مع بلديات أخرى، يكون مطلوباً من بعض البلديات تكليف شخص بمهمة ملاحقة المعاملات «وإلا يمكن أي مشروع أن يستغرق 5 أشهر، المراسلة البريدية قد تؤخرنا شهراً». لهذا كلّفت بلدية الغبيري عدداًَ من الأشخاص بالمتابعة «علماً بأن هذا أمر لا تستطيع كل البلديات توفيره».
كلّ ما سبق ذكره يمكن وضعه في كفة، والحديث عن التعاميم التي تعطل تنفيذ القانون، وتعرقل العمل في كفة أخرى. علماً بأن الخنسا يحصر كلامه بالحديث عن تعميمين يعتبر أنهما يمثّلان خرقاً كبيراً للقانون. التعميم الأول اكتشفه مع وصوله إلى البلدية «التي كانت تحتاج إلى المكننة، لكن أحد التعاميم يمنع تعيين موظفين لأن مجلس الوزراء أصدر مرسوماً يمنع التوظيف، وقد استمر هذا الأمر إلى ما قبل عامين. أي إنهم منعوا التوظيف مدة 8 سنوات. طيّب أنا كبلدية إذا لم أوظف محاسبين وعمالاً زراعيين وأنظم المكننة وغيره... فكيف أعمل؟». الحل الذي لجأ إليه كان «حيلة قانونية من خلال التعاقد مع شركة تؤمن خدمات عمالة وتتولى المهمات. أي إني بقيت أدفع زيادة نحو 20% عن المصروف البلدي، إذا كانت قد وظفت عمالاً يقومون بهذه المهمات». التعميم الثاني يتعلق ببناء مراكز من دون الترخيص لها، على أن تقوم الجهات المعنية بترخيصها بعد عام. بناءً عليه، «بُنيت المدينة الرياضية، مستشفى بيروت الحكومي، المدارس المهنية، بعض المؤسسات العامة، كلّها أُنجزت ومضى عليها سنوات ولم يعط لها أي ترخيص بعد والسؤال هو: هل يجوز ألا تكون هناك ملفات تنظيمية في أبنية منشأة داخل نطاق البلدية؟ إذا حصل حريق مثلاً، فكيف يُعالج؟ كيف يسعني التدخل كبلدية؟ أعتقد أن هذا من التعاميم السيئة». لذلك يرى الخنسا أنه «يجب ألا تلتزم البلديات بالتعاميم، القانون سلطته أقوى منها، وأعتقد أنه كان يمكن عدم الالتزام بالتعاميم من خلال اللجوء إلى مجلس شورى الدولة لكن البلديات لم تلجأ إلى هذا الخيار».
الخنسا يرى الكثير من الإيجابيات في اللامركزية، ويؤكد على حق البلديات في الاستفادة منها، وخصوصاً أنها سلطة منتخبة من الشعب. وهو أورد أهميتها على الصعيد العملي، إلا أنه يرى صعوبة في تحقيقها لأنها برأيه يجب أن تبدأ من فوق إلى تحت، «أي أن يكون مشروع القانون النيابي متجانساً مع قانون اللامركزية». وهذا يقتضي الإجابة عن سؤال عن كيفية إعداد قانون اللامركزية «ونحن لم نحدد الأقضية في لبنان بعد؟ أولاً يجب أن يحدّد التقسيم الانتخابي في لبنان: قضاء، محافظات، غيره، وعلى ضوء هذا التقسيم يتحدّد مشروع اللامركزية في البلديات».