رامح حميةبالقرب من وجاق الحطب، تجلس الحاجة مريم يونس ابنة الستين عاماً، تفترش بساطاً بلاستيكياً ملوناً، تضع عليه لوحة خشبية خاصة لـ«رق» العجين. تدعك براحة كفيها ذهاباً وإياباً «تقريصة» العجين حتى تصبح أشبه بحبل يصل طوله إلى حوالى 60 سنتمتراً، سرعان ما تعمد إلى تقطيعها بسكين صغير، قطعاً صغيرة لا يتجاوز طولها 10 سنتمرات. ولتقوم بذلك «من دون أن تلتصق القطع بعضها ببعض»، تنثر عليها الدقيق بوفرة، لتشكّل فوقها طبقة لا بأس بسماكتها. إنها تعد طبق «الرشتة». الطبخة البقاعية المشهورة التي تعرف بـ«أكلة الشتاء»، لكونها «مقاومة للبرد والصقيع»، كما تعتبرها يونس، حيث أكدت أنها المفضلة لدى أبنائها، وهي التي أتقنت تحضيرها مذ تعلمتها من والدتها، موضحة أنها تراثية بامتياز لأنها «أكلة» الآباء والأجداد، «ولو لم تكن لذيذة ومرغوبة لاندثرت منذ وقت طويل». وعن تحضير الرشتة، تشير يونس إلى أن الطبق الشتائي يتطلب تجهيز العجين دون إضافة خميرة له، في الوقت الذي يُسلق فيه العدس. وعند نضوج حساء العدس تضاف إليه قطع العجين الصغيرة، ومن ثم تحضر «تهويسة» القاورما والبصل والكمون و«بعض الفلفل حسب الطلب»، يضاف من بعدها المزيج إلى العجين وحساء العدس.
وتعتبر طبخة «الرشتة» في بعض القرى والبلدات البقاعية من الطبخات التراثية التي يتقن صنعها المسنون ويرغب بتناولها الصغار والكبار، فضلاً عن كونها من الأطباق الرئيسية التي تحتلّ السفرة البقاعية أيام الشتاء القارس لغناها بالفيتامينات والسعرات الحرارية، فهي تعتمد بمكوّناتها على المؤونة المنزلية من القاورما والعدس، وجميعها مكونات حامية تبثّ الحرارة في الجسم. وكغيرها من أنواع المأكولات التراثية التي يشتهر بها المطبخ البقاعي، تعرّضت «الرشتة» لبعض التطور. فرغم أن غالبية البقاعيين حافظوا على تحضيرها وفقاً للطريقة التقليدية التي كان الأجداد يحضرونها بها، إلا إن البعض الآخر منهم، في عدد من القرى البقاعية، قد بدأ «بتطويرها»، كما تؤكد سوزان الضيقة، التي أوضحت أنها تحضر الرشتة بدون قطع العجين، إذ تستبدله بـ«صدف السباغيتي»، حيث لا يختلف الطعم كثيراً ويبقى المذاق شهياً ويرغبه أبناؤها. وأضافت سوزان أن الطبخة لم تعد حكراً على البقاعيين بل امتدت لتشمل المقيمين في بيروت أيضاً.
من جهة ثانية تبادل بعض البقاعيين من زوار الأماكن المقدسة في إيران وصفة تحضير «الرشتة» مع بعض الإيرانيين الذين أحدثوا تعديلاً أيضاً في طريقة تحضيرها لجهة إضافة «الكشك» إلى المكونات، لتصبح الطبخة أكثر غنى بعد انضمام مكون دسم جداً إليها، وليعبر عنها البعض بأنها «طبخة بتقتل البرد قتل».