في 9/12/2009 صدر حكم عن القاضي المنفرد الجزائي في البترون، قضى بإدانة لبنانية تعرضت بالضرب للعاملة الفيليبينية التي كانت تعمل في منزلها. الحكم لقي ترحيباً من خبراء قانونيين ومناضلين من أجل حماية العاملات الأجنبيات
بيسان طي
سجّل القضاء اللبناني انتصاراً لمصلحة عاملة فيليبينية تعرضت للضرب على يد مستخدميها. أخيراً، التقى صوت المحكمة مع مطالبات ناشطين من أجل حقوق الإنسان في قضية تعرّض خادمات أجنبيات للتعذيب. الحكم الذي سطّره القاضي المنفرد الجزائي في البترون منير سليمان خطوة في مشوار محاربة العنصرية التي يتّسم بها تصرف بعض اللبنانيين وأداؤهم.
الحكم صدر يوم الأربعاء الماضي، وقضى بإدانة المدعى عليها ف. ص. بالجنحة المنصوص عليها في المادة 554 عقوبات وبحبسها مدة 15 يوماً، وبتغريمها مبلغ خمسين ألف ليرة، وبإلزامها أن تدفع للمدعية (أي العاملة الفيليبينية) جونالين ماليباغو مبلغ عشرة ملايين وثمانمئة ألف ليرة بدل عطلها وضررها. كذلك قضى الحكم بردّ سائر الأسباب والمطالب «ولا سيما طلب المدعى عليها الرامي إلى دعوة المدعية وإحضارها من بلدها»، وأخيراً تضمين المدعى عليها ف. ص. نفقات المحاكمة. وما يزيد من أهمية هذا الحكم بالنسبة إلى خبراء قانونيين، أنه صدر مع وجود المدعية خارج البلاد، أي إن القضاء انتصر لعاملة أجنبية بعدما غادرت الأراضي اللبنانية.
القصة تعود إلى عام 2006. خلال حرب تموز أحضرت ف. ص. العاملة التي تعمل في منزلها إلى سفارة الفيليبين في الأشرفية، حيث اجتمعت عاملات من أبناء الجالية خلال حرب تموز، وعُمل على تسفيرهن هرباً من الأوضاع الأمنية السيئة. كانت العاملة جونالين حينها برفقة ف. ص. وابنها المراهق، وكانت حاضرة الشاهدة هـ. أ. التي أدلت بشهادة أكدت فيها أن جونالين تعرضت للضرب.
عند وصول ف. ص. تعرضت للتهجم على يد موظفي السفارة وبعض العاملات، ما استوجب استدعاء القوى الأمنية.
ما سبب الهجوم على السيدة اللبنانية؟ تبيّن أن ف. ص. أقدمت على ضرب العاملة جونالين، ودفعتها لحثّها على السير بسرعة وهي تحمل حقيبتها الخاصة، وقد نُقلت جونالين إلى مستشفى في الأشرفية لمعالجتها بعدما أُغمي عليها، وهي تعاني ظهور بقعٍ سوداء وزرقاء، بعضها أضحى مصفراً حينها، في مختلف أنحاء جسمها. العاملة الفيليبينة قالت إن هذه البقع ظهرت نتيجة تعرضها للضرب المبرّح على يد ف. ص. وزوجها وابنها.
تلفت قراءة نص الحكم أن طبيبين شرعيين، هما ع. ح. و ن. ص. كشفا على جونالين خلال وجودها في المستشفى بناءً على تكليف من النيابة العامة الاستئنافية في بيروت، وأكدا وجود «كدمات في مختلف أنحاء جسم المدعية من دون وجود أي مرض في الدم وفقاً للفحوصات الطبية». وفي تقرير أحد الطبيبين أن العاملة تعاني أيضاً أوجاعاً في فروة الرأس، وأن الكدمات التي تعانيها ناجمة عن صدمات مباشرة.

تقارير طبية...

بدأت جونالين العمل في منزل ف. ص. في شهر شباط 2006، ونقرأ في نص الحكم أن ربة العمل اصطحبت العاملة لديها إلى الطبيب ن. و. وقد ورد في تقريرين أحدهما للطبيب ن. و. والثاني نظمه الطبيب هـ. د. يبينان فيهما رأيهما في الفحوص المخبرية العائدة للمدعية، فورد فيهما أن جونالين تعاني نقصاً في الصفائح الدموية، ما يسبب لها سيلاناً في الدم وظهور بقع حمراء وزرقاء على الجلد على نحو عفوي. وأضاف أحد الطبيبين أن هذه

نُقلت العاملة إلى مستشفى لمعالجتها بعدما أُغمي عليها، وهي تعاني ظهور بقعٍ سوداء وزرقاء

البقع تظهر دون التعرض لكدمات، وأن العاملة تعاني استعداداً لمرض التلاسيميا. وحين استمعت المحكمة إلى هذا الطبيب بوصفه شاهداً، أكد معاينة جونالين ثلاث مرات «فيما لم يكن جازماً في مسألة ظهور البقع على الجلد بصورة عفوية من دون التعرض للصدم»، فيما قال الطبيب هـ. د. أمام المحكمة إنه «لا يمكن تلك البقع أن تظهر حتى في حالة مرض المدعية، من دون التصادم بأجسام صلبة».
متابعة القضية، وقراءة الحكم الصادر فيها، يلفتان إلى تعمّق القاضي في قراءته، وفي بحث القضية، ليطال هذا البحث، إضافة إلى البعد القانوني والميداني، الجانب العلمي ـــــ الطبي. ففي نص الحكم إحالة إلى مواقع طبية إلكترونية مشهود بكفاءتها، وقد تضمن الحكم توصيفاً علمياً شديد الدقة لإمكان ظهور نقاط قد تتحوّل إلى بقع كالكدمات على الأطراف إذا انخفض معدل الصفائح الدموية بين 15000 و30000 بالملليمتر المكعب. ويلفت الحكم إلى أن هذا لم يكن حال العاملة جونالين، إذ كان معدل الصفائح الدموية لديها 93000 ألف بالملليمتر المكعب «أي ما يجعلها بمنأى عن ظهور النقاط الدموية... والبقع الدموية العضوية». كذلك فإن البقع لم تظهر على الأطراف فقط، بل أيضاً «على الصدر وعلى الظهر وعلى الرأس».
لا يفوت الحكم التنبه إلى أن العاملة الأجنبية عندما تُستدعى للعمل في لبنان تخضع لفحوص مخبرية للتأكد من سلامتها، ولا يُسمح لمن تعاني أمراضاً مؤذية بالعمل فيه.

دقة علمية

يستند الحكم أيضاً إلى تقدير الطبيبين الشرعيين اللذين فحصا جونالين، وقد اتخذت لها صور فوتوغرافية. نقرأ في نص الحكم: «... ثبت للمحكمة أن البقع الظاهرة على جسم المدعية هي كدمات نتيجة المصادمة بأجسام صلبة يُضاف إلى ذلك موقع البقع على الظهر وعلى الصدر والرأس، وإفادة الشاهدة هـ. ا. لتثبت أن هذه المصادمات لم تكن عفوية، بل ناجمة عن أفعال ضرب تعرضت لها المدعية المقيمة بصورة مستمرة لدى المدعى عليها، وأن تقارير الطبيبين و. ود. أتت لتغطية أفعال المدعى عليها ولإبعاد الشبهات عنها».
جونالين عانت خلال إقامتها في منزل إحدى العائلات اللبنانية «ظروفاً إنسانية متردية»، وقد تعرضت «للقسوة... والضرب المبرح على يد ربة عملها... والحطّ من كرامتها الإنسانية وتعرضها للآلام الجسدية وللذل». غادرت العاملة الفيليبينية لبنان في 16/8/2006، حملت ذكريات سيئة ومؤلمة عن أشهر قليلة قضتها في بلاد الأرز. ذهبت ولم تعد. تركت خلفها قضية تُدرس في أروقة المحاكم... بعد ثلاثة أعوام، تغيرت الصورة القاتمة، قد تقرأ جونالين رسالة تحمل الخبر السار: في 9/12/2009 نطق القضاء اللبناني بحكم لمصلحتها.


خطوة متقدمة ورادعة ضد الانتهاكات

نديم حوري، الباحث في منظمة «هيومن رايتس ووتش»، رأى في الحكم الذي أصدره القاضي منير سليمان «خطوة مهمة ومتقدمة جداً، تدلّ على أن القضاء اللبناني يستطيع أن يؤدي دوراًً مهماً للدفاع عن حقوق العاملات الأجنبيات». حوري الذي أصدر قبل فترة بياناً موثقاً رأى فيه أنّ «شهر تشرين الأول شهر دامٍ بالنسبة إلى للعاملات الأجنبيات»، وهو قال في حديث لـ«الأخبار» إنه «مطلوب من القضاء أن يؤدي دوراً مباشراً وواسعاً في قضية العاملات الأجنبيات، هكذا تصير الأحكام الصادرة عنه رادعاً يمنع الانتهاكات التي قد تتعرض لها عاملات المنازل في المستقبل». وقد ذكّر بأن عدة عوائق تحول دون تقدم عدد من العاملات بدعاوى بحقّ مشغليهن، منها الكلفة المرتفعة، وطول فترة الإجراءات التي تقتضيها عمليات التحقيق في القضايا المختلفة. أخيراً، يُذكر أن وزير الداخلية، زياد بارود، صرّح بأنّ الوزارة تنوي اتخاذ تدابير، وذلك «في إطار الاحترام الكامل لحقوق الإنسان، على أن تجري المتابعة في دوائر الأمن العام بالتنسيق مع القضاء لتسهيل عملية الترحيل».