أنسي الحاج

■ فلذة تنفصل عن عتمة


في الطقوس المسيحيّة سرّ الاعتراف. قد توحي الصورة من الخارج أن المعْتَرَف له هو «المَرْجع»، ولكنّ مَن مارس هذا الطقس مرّة واحدة في حياته يعلم أن بطله هو المعترِف حتّى لو كان فحوى اعترافه عاديّاً. المعترِف لا يعترف لكاهن داخل الكرسي بل للكون كلّه.
يحاول أطبّاء النفس استنساخ هذا الدور على كنبات عياداتهم، التي لا شكّ في فوائدها وفي مضارّها أحياناً أخرى، ولكن يُعْوزها البُعْد الكوني الميتافيزيكي. كرسي الاعتراف نافذة تُفْتَح على الغامض، شئتَه دينيّاً إلهيّاً أو وادياً هائلاً بهيماً. إن مَن يبوح بمكنونه الخطِر أو المعيب كمَن يلقي برسالة في بحرٍ عقلُه جنون وجنونُه عقل، بحر يُرغي بالخطر ويستقر على الغفران، بحر لا يراكَ بل يسمعك، ويحملكَ من نفسك إلى انخلاقٍ جديد.
حاملُ السرّ يعرف وحده معنى البوح به. وقبله يعرف ـــــ كما سيعود ويعرف بعده لأنه مفطور على السرّ ـــــ قبله يعرف وطأة الكتمان، خاصّةً عندما يكون عن خوفٍ من مفاعيله على الآخرين لا من خشية على النفس. التعايش مع سرّ مدمِّر بركانٌ مخنوق، ولحظة الاعتراف بهذا السرّ لحظةُ خَلْع عِذارٍ كونيّ تمتزجُ فيها اللذّة بالرعب والتطهُّرُ بالانحراف والخيرُ بالشرّ. يغتسل المرء من خطيئة استعداداً لخطيئة جديدة.
بعد النغم والصوت ــــ النغم (وفي أحيانٍ مختارة، قَبْلهما)، أعظم ما تتلقّفه الأذن هو الاعتراف. المعترِف ليس شخصاً يَعترِف بسرٍّ كان سرّه، بل بفلذة من الحقيقة انفصلت عن العتمة لترقص عارية.
وأعظمُ ما في سرّ الاعتراف المسيحيّ أنّه يأخذ منك «الخطيئة» ـــــ وأحياناً لا خطيئةَ فيها غير الخجل بها أو الخوف منها ـــــ و«ينساها». وفوق النسيان الغفران، أوّلُه غفرانك لنفسك ما إن تقوم بهذا الفعل الوديع، حيث الانكسار هو منتهى النقاء.
كلامٌ يرفضه الأشدّاء، والذين لا يسائلون أنفسهم، والذين يحتقرون الضعف. كلامٌ عن ممزَّقين وعن مسكونين، عن عالمٍ يصارعُ أشباحه، وعن باحثين على الطرق المجهولة.
لعلّ المشهد الأروع يبقى صورة ملحدٍ يعترف لكاهن، وهو باقٍ على إلحاده. فالعبرةُ هي في استلالِ المُخَبَّأ وإلقائه في ذلك البحر المجرَّد من الذاكرة، حيث النسيانُ أمومةٌ كبرى.

■ عناق الهَبَّتين


هبّةُ إيمانٍ وهبّة إلحاد، في دوراتٍ متواصلة. ولكنّ الهبّتين قد تتلاقيان في اللحظة نفسها، فيستحيل عندها وصفُ الحالة. مسرحٌ في الرأس يتواجه عليه فارسان يدعسان بِخَيلهما على هذا الرأس الموعود بالخلاص على يدهما...

■ ولولة


يلاحَظ أن الضاحك الطبيعي لا يفلسف الضحك وأنَّ أشهرَ دُعاة الضحك في العصر الحديث، نيتشه، كان من أشدّ المصلوبين ألماً. بعضُ الضحك مفتعل (وأبشعه في السينما الانتلكتواليّة) لا فرحَ فيه ولا حزن. صياحٌ يغطّي خواء. المفهوم الحديث للضحك مستعارٌ من مستعار، إسقاط من صورة خاطئة عن إله النشوة، صورةٌ صبيانيّة هوليووديّة قبل هوليوود. الضحكة الحديثة لم تتحقّق، الذي تحقَّق هو تقليدٌ لفكرة مشوّهة عنها.
هل كان نيتشه يضحك فعلاً؟ استهزاؤه الكتابي لا ينبئ بالضحك الديونيزي بل بتقرّح الفكر وتوجّع الوجدان والغيظ الملتهب أمام مشاهد البلاهة والانحدار.
الضاحك يَضْحك. العاجز عن الضحك «يتصوَّر» الضحك. في الأغلب يتصوّره انتقاماً، تمويهاً، تخويفاً. الضاحك لا يدعو إلى هذا النوع الخرائبي من الضحك. ضحكُ نيتشه قهقهةُ المتكبّر الجريح. ضحكه ولولة ولا يهتزّ بطنه سروراً.

■ ثلاثة


المتعةُ ذكراها، الرغبةُ حاضرها، الحبّ أوهامه ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

■ شاعريّة الحواس


هدف الرغبة ـــــ وهو الرغبة ذاتها ـــــ يصْدف أن يتطابق مع شخصٍ يشبه الصورة التي يختزنها الذهن عن الهدف. حينئذٍ قد تقع الرغبة، الرغبة الحرّة أساساً، في فخّ المرآةِ النرجسيّة، فتُسمّى الوقعة حبّاً.
مرّة كتبتُ «الجنس يأتي معه بحبّه»، وعارضني مَن عارضني بدعوى الدفاع عن طهرانيّة الحبّ. سألني أحدهم: «وماذا تفعل بالشاعريّة التي تكتنف العلاقة؟ لو كانت مجرّد رغبةٍ جنسيّة فما سبب الحلم؟». الجواب هو أنّ من الخطأ استعمال كلمة «رغبة» بالاحتقار الموروث من التربية التقليديّة، فالرغبةُ هي شرارة الحياة، جزءٌ منها كهربائي، كيميائي، وجزء غير ممسوك ولامحدود، وبدونها لا يتأتّى ما ندعوه حبّاً. الحبّ هو البخار الليريكي المنبعث من أشواق الرغبة. وهو شاعريّة الحواس كما قال بلزاك. إن الإصرار «المادي» على هذا التعريف لا يتعارض مع مبدأ الحبّ ولا ينفي وجوده، إنّما يحاول تشذيبَ الأعشاب الزائدة حوله، كما يُراد به إعادة الاعتبار إلى الرغبة والتأكيد على كونها الأرض الخصبة الممكنة لمختلف أشكال الافتتان، وبعضه هو الحبّ، وربما يكون ذروته العاطفيّة. ولا بدّ من تسجيل هذه الملاحظة: إن الرغبةَ مهما جمحت لا تعطّل طريق «الصعود» إلى التعلّق أو الحبّ، بينما الحبّ إذا غرق في أمواج الرقّة والرومانسيّة قد يعطّل مسارَ الرغبةِ وقد يشوّه المتعة ويصيب الطرف المعشوق بالإحباط وأحياناً بالنفور. يضاف عنصرٌ آخر أشدّ فتكاً هو الغَيْرة، وغالباً ما تسلّحتْ بالحبّ لتعطي نفسها شرعيّة التملُّك وصكوك التدمُّر والتدمير.
الحبّ هو، من بين ما هو، حدودُ الرغبة. حدودٌ مريحةٌ من عبءِ المغامرة، مثل كل حدود. الحبّ هنا هو سجنُ الرغبةِ في شخصٍ معيّن وإسقاط جميع المتطلّبات عليه. وفي ذلك ما فيه من ظلم للطرفين ـــــ ظلمٌ يستطيبه كلاهما ما داما سابحين في سكرةِ الانبهار ويُمسي جحيماً مع عودة الوعي.
عودةُ الوعي بعد حلم الحبّ، سقوطٌ في مشاعر الندم ومرارات انكشاف الانخداع وكراهية الذات قَدْر كراهية الآخر وأكثر، بينما عودة الوعي بعد حمّى الرغبة لا تتجاوز كونها فترة انتقاليّة يصحبها في الغالب، وعلى الفور، تَشوّقٌ لهدفٍ آخر، وإلى ما لا نهاية.

■ للبقاء


السحرُ الذي يلفّ نظرتنا إلى المؤلِّف الموسيقي وانبهارنا بقدرته الإبداعيّة «الغريبة» هما أشبه ما يكونان بما يُتَمنَّى لنظرةِ كلّ جنسٍ من الجنسين إلى الآخر. دهشةُ الجاهلِ ليست شرطاً من شروط الترقّي بل من شروط البقاء.

■ تلك الأشياء


في أعالي لبنان جبالٌ تحاذيها وأنت منطلق بالسيّارة. تحاذيها قريبة جداً على جانب الطريق، حيث لا أشجار ولا مارّة، بل وحدها هذه الكتل الصمّاء العملاقة تربض كالوحوش النائمة نهاراً وكالأشباح المستيقظة ليلاً.
ما قطعتُ بالقرب منها إلاّ أشحتُ بنظري خوفاً. إنها تحمل لي تهديداً أجهل طبيعته ولكنّي متيقّن منه. إذا أردتُ جاهداً تشبيهه فلعلّه أقرب إلى ذكرى تنطوي على إثمٍ ارتكبتُه وتعرفه هذه الجبال. كتلٌ كانت زلازل وتجمّدَتْ.
الخوفُ نفسه، وهذا ما كتبتُ عنه مراراً، تولاّني في المرّتين الوحيدتين اللتين زرتُ خلالهما تمثال أبي الهول في القاهرة، ولم أستطع ولا ثانية أن أنظر إليه، بل كنتُ ما إن نقترب منه حتّى أُلحّ على السائق متوسّلاً أن يعود أدراجه فوراً.
البريّة التي قد تمنحني بعض الأمان هي البساتين والكروم وجارات الجداول والأنهار. وما إن يتكاثف وجود ضخم، كالغابات المعزولة أو الأودية السحيقة أو الجبال، حتّى أهلع.
وحده المطر، مهما اشتدّ زخُّه، يسعدني. كذلك الريح. كأنّ نفسي ضعيفة وقويّة، مريضةٌ ومعافاة.
ولا أدري لماذا لا أجرؤ على التحديق طويلاً إلى النجوم ولماذا أشعر بالوجل والتعاطف كلّما خُيّل إليّ أني أسمعُ صريرَ خشب أو أصوات سكوت.
يخيفني بعدَ ذلك أن لا يكون موتي سوى موتي بالنسبة إلى الباقين أحياء لا بالنسبة إليّ، وأن أعودَ إلى هذا الكون الذي يفزعني الآن بجباله وكثافاته الهادئة، بعدما كنتُ هنا أموّهُ ذنوبي في خضمّ الحياة. أخافُ أن أذهبَ حيث تلك الأشياء ستقبض عليّ.