كتابة المذكّرات موضة بين رجال السياسة والدين في لبنان حيث رجال الدين رجال سياسة. الكلّ يهرع لتذكّر الماضي على غير ما كان عليه. يريدون منّا تعليق ذاكرتِنا، أو محوِها على طريقة فيلم «رجال بالأسوَد». مجرمو الحرب يُعاد تسويقهم لنا كملائكة، ووكلاء المُستعمِر يُروّج لهم على أنهم حُماة السيادة... ورفيق الحريري، الحليف الوثيق لقادة الاستخبارات السوريّة في لبنان وسوريا، بات اليوم بعد وفاته رمزاً للمقاومة الشجاعة ضد النفوذ السوري. علِّقوا عقولكم، مثلما تعلّقون قبّعاتكم، على مشاجِب
أسعد أبو خليل*
وقعتُ قبل أعوام على خبر صغير ورد في جريدة «النهار» في صفحة داخليّة عام 1975 قبل البداية المُزلزلة للحرب الأهليّة، جاء فيه: «وصل يوم الجمعة إلى حيفا قادماً من لبنان الأسقف الماروني شربل قسيس يرافقه سكرتيره السيد مانويل خوري. وتهدف زيارة الأسقف لحيفا إلى البحث في إمكان قيام أبناء الطائفة المارونيّة في إسرائيل بزيارات للبنان». («النهار»، 14 نيسان، 1975). مرّ الخبر هكذا، من دون تعليق ولا اعتراض ولا مضاعفات ولا عواقب ولا تحقيق من النيابة العامّة. الرجل الذي أصبح الرئيس العام للرهبانيّات المارونيّة والذي لعب دوراً بارزاً في الحرب الأهليّة وفي التحريض على الآخر المسلم والفلسطيني (يريد ورثة ميليشيات اليمين الطائفي أن ننسى أن حربهم لم تكن فقط ضد الشعب الفلسطيني بل كانت مُوجّهة أيضاً ضد «الشريك» المسلم، ويظهر هذا بوضوح في مذكّرة لجنة البحوث اللبنانيّة

وضعت لجنة بحوث الكسليك دراسة مفصّلة لـ«إثبات» كون المسلمين لا المسيحيين هم الذين يتمتّعون بامتيازات في الدولة اللبنانية

بعنوان «الموقف المسيحي من الأوضاع اللبنانيّة الراهنة» عام 1975) كان في زيارة بريئة جدّاً لإسرائيل وقبل أيّام من اندلاع الحرب الأهليّة. أليس من المستغرب أن يزور قسيس، حيفا، في دولة نعتبر أننا في حالة عداء معها؟ ومن سيصدّق أن الزيارة كانت فقط لتفقّد حال الرعيّة مع أن الصحف في تلك الحقبة لا تورد أخباراً عن زيارات لتفقّد الرعيّة في مناطق الجنوب أو الشمال من لبنان؟ طبعاً، سيُقال إن تحرّك رجال الدين محكوم بسوابق لا تنطبق على سائر المواطنين والمواطنات، لكن البطريركيّة المارونيّة وقّعت اتفاقاً مع الحركة الصهيونيّة عام 1946، كما أن المطران مبارك الذي يُعاد تكريمه هذه الأيام فقط لاستفزاز من يُناصب الصهيونيّة وإسرائيل العداء أدلى بشهادة أمام لجنة الأمم المتحدة في شأن فلسطين عام 1947 دعماً لمطالب الحركة الصهيونيّة. أي إن وراء الرهبانيّة والبطريركيّة ما وراءهما، من دون أن يشين هذا الكلام أبناء الطائفية المارونيّة الذين سقط بعضهم من أجل فلسطين، وكرّس بعضهم حياته دفاعاً عن فلسطين. ثم مع من التقى قسّيس ليرتّب إجراءات زيارات موارنة فلسطين للبنان؟ هل حُقّق معه لمخالفته القوانين اللبنانيّة بالنسبة إلى الاتصال بالعدو، أم أنه يحقّ للإكليروس ما لا يحقّ لغيره؟
مناسبة هذا الكلام هي صدور كتاب مذكّرات بولس نعمان من دون نشر مراجعات نقديّة لها بعد. ونعمان يرسم صورة مُنقّحة واعتذاريّة عن الدور الميليشياوي المُبكِّر للرهبانيّات المارونيّة. ويلجأ إلى تلك الذريعة المعهودة لتسويغ الحرب ضد شعب فلسطين في لبنان، والتحالف مع إسرائيل: يستشهد بتوقيف سيّارة كاهن واحد عام 1969 (ص. 39). لكن المنظمّات الفلسطينيّة كانت مُحقّة في إقامة الحواجز في جميع أنحاء لبنان وفي تفتيش السيّارات، وخصوصاً أنها كانت، ولا تزال، في بيئة معادية تعشّش فيها منظمات تدين بولائها للعدوّ الإسرائيلي، هذا من دون الموافقة على طريقة الانفلاش «الفتحاوي» و«الصاعقي» الذي وسم أداء بعض المنظمات الفلسطينيّة، مما سهّل على أعدائها التعبئة ضدّها، كما سهّل مهمّة العدو في ضربها. ويريد لنا نعمان أن نعرف أن الرهبانيّات كانت سبّاقة في إنشاء مخيّمات التدريب وجلب السلاح (من أين؟ من الواهب الأكبر، لا شك) كما أنه لا يخفي أن السلطة اللبنانيّة كانت تغضّ الطرف (هي طبعاً كانت تمدّ بالسلاح وبالمدرّبين لكن عليك أن تنقل ما جاء في مذكّرات نعمان). (ص. 52).
تظهر في الكتاب سمة أساسيّة في فكر العقيدة النازيّة اللبنانيّة التي تلجأ مثلها مثل الصهيونيّة إلى الاعتماد على نظريّات التفوّق الطائفي والعرقي (المُتخيَّل) لتسويغ سيطرة طائفة على مقدّرات الدولة والمجتمع، بصرف النظر عن الحقائق الديموغرافيّة. هذا ما عناه بيار الجميّل الحفيد في كلامه عن «النوعيّة» (أو «إهمال حق تقرير المصير العددي» وفق تعبير أرثر بلفور)، أو كلام جبران تويني عن «الغَنَم» العددي. يزهو نعمان بالعلم والتعلّم عند أبناء الطائفة (ص. 48) ويعتبره نقيصة عند العدو الشريك. وعندما التقى نعمان بوليد الخالدي قال عنه إنه ليس مثل غيره (من أبناء الطائفة أو الوطن الفلسطيني؟) فهو «على قدر كبير من الثقافة والرقيّ». (ص. 72). وهذا يفسّر محاربة أقطاب العقيدة النازيّة اللبنانيّة لانتشار العلم عند المسلمين (مثل التلكؤ في إنشاء الجامعة اللبنانيّة، ومحاربة فكرة الجامعة العربيّة ومعارضة معادلة شهادة التوجيهيّة ورفض إنشاء كليّات حقوق خارج الجامعة اليسوعيّة لأن حظوة العلم المُستقاة من الإرساليّات الدينيّة التبشيريّة أمدّت طائفة بوسائل تسويغ السيطرة و«التفوّق»).
والطريف في خطاب أقطاب ميليشيات اليمين في الحرب أنهم اليوم يزعمون أن عداءهم كان مُوجّهاً فقط ضد «الغرباء» الفلسطينيّين الذين حاولوا التوطين، مع أن منظمة التحرير كانت قادرة على كسب تأييد دولي للتوطين لو أرادت. ينسى هؤلاء أنهم عادوا، بالإضافة إلى شعب فلسطين، المسلمين (والمسلمات) في الوطن، بالإضافة إلى كل ما يمتّ بصلة إلى فكر اليسار (وهم استحقّوا عن جدارة وصف اليمين). وقد أصدر مؤتمر الرؤساء العاميّن للرهبانيّات المارونيّة مقرّرات دانت «الطابور الخامس بكلّ حقيقته وعريه، منه الشيوعيّة ومشتقّاتها». (ص. 69). كما أن شربل قسيس، الحريص على تفقّد الرعيّة المارونيّة في حيفا، قدّم مذكرة بمطالب الرهبانيّات إلى الياس سركيس، جاء فيها «رفض نظريّة الصراع الطبقي العدواني». (ص. 119). وقد عملت لجنة البحوث في الكسليك على وضع دراسة مفصّلة لـ«إثبات» كون المسلمين، لا المسيحيّين، هم الذين يتمتّعون بامتيازات في الدولة اللبنانيّة. لا علاقة لذلك بالحرب التي يزعم ورثة الجبهة اللبنانيّة بأنهم شنّوها ضد شعب فلسطين. (ص. 135). على الأقل، كانت الرهبانيّات المارونيّة والجبهة اللبنانيّة تعترف يوم ذاك بأن تناقضات عميقة تفرّق بين اللبنانيّين، بما فيها «اختلاف جوهريّ بين أبنائه على مفهوم الولاء القوميّ والوطنيّ». (ص. 147) والكلمات التي أُلقيت في خلوة سيّدة البير (والتي نجد روحها وخبثها وخطرها في مقرّرات الطائف، وفي خطاب الوطنيّة اللبنانيّة الذي بات يجمع بين كل الأفرقاء في لبنان، بما فيها حزب الله الذي جاءت وثيقته السياسيّة الأخيرة لتعبّر عن ولاء وطني للكيان اللبناني المسخ) كانت واضحة في مراميها. قال المؤرّخ جواد بولس للحاضرين إن «الخطرَيْن» اللذين يتهدّدان لبنان هما «الشيوعيّة والعروبة»، (ص. 150) واتهم المسلمين بمحاولة «السيطرة على لبنان» (ص. 156). كميل شمعون لم يوارِب: اعتبر أن المسلمين «فئة لا تؤمن بلبنان». (ص. 152). وفي موقع آخر من اجتماعات «البير» قال شمعون: «اختباري الطويل يعلّمني أن لا راحة إلا بالانفصال عنهم». (ص. 161). لعلّ شارل مالك حاضر أمامهم عن نظريّته في «المحاكاة الحضاريّة» بين لبنان وإسرائيل.
تتضح في الكتاب بعض معالم المؤامرة المُبيّتة التي أُعدِّت ضد الشعب الفلسطيني وثورته في لبنان. يتحدّث نعمان عن اتفاق بينه وبين سليمان فرنجيّة الرئيس حول «ترتيب الوجود الفلسطيني في لبنان وضبطه» (ص. 78)، كما يتضح أن البطريرك المُسالم والوديع خريش كان عقبة أمام المتآمرين، ولا يتورّع نعمان عن التصريح بأن من كان في صفّه اعتبر وصول خريش إلى سدّة البطريركيّة «نكسة» فقط لأنه كان متعاطفاً «أكثر من اللزوم مع القضيّة الفلسطينيّة». (ص. 63). وسرديّة نعمان عن الحرب مُستقاة من مخيّلته أكثر مما هي مستقاة من وقائع الحرب وحقائقها: فهو يذكر أن المسيحيّين تعرّضوا للتهجير من المناطق الإسلاميّة (ص. 93)، فيما يتجاهل أن حملات التهجير الطائفي والشوفيني المُمَنهج بدأت على يد ميليشيات فريق الأب نعمان، كما أن الشطر الغربي من بيروت كان أكثر تنوّعاً ورحابة من الشطر الشرقي حتى ظهور المنظمّات الدينيّة بعد اندثار الحركة الوطنيّة اللبنانيّة. وهو يشير إلى أبناء الطوائف غير المسيحيّة وبناتها بـ«الجحافل» (ص. 94). وتزوير الحقائق عند نعمان بلغ حدّاً دفعه للقول إن الميليشيات اليمينيّة التي لم تتوقّف عن التدريب منذ 1958، والتي تنعّمت بكل ما لدى الجيش اللبناني من أطايب وأسلحة وذخائر، لم تكن مستعدّة للحرب، مع أنه من الأكيد أن طرفاً واحداً فقط للأسف كان يحضّر للحرب، وانتمى نعمان إلى ذلك الطرف.
ويبرز في سرد نعمان الأقل من المُجتزأ، الدور الذي لعبه أنطوان لحد، وغيره، من داخل الجيش اللبناني في مساندة الحرب الوحشيّة على المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان. (ص.99). كما يبرز الدور الذي لعبته لجنة البحوث في الكسليك لإعطاء السند النظري للأطروحات الطائفيّة والشوفينيّة للجبهة اللبنانيّة، كما أن الاعتراض كان في أكثره موجهاً ضد «المسلم» اللبناني، كما جاء في رد لجنة البحوث على الوثيقة الدستوريّة: «لقد تحوّل لبنان في رسالة الرئيس من «لبنان ذي الوجه العربي»، كما كان في ميثاق 1943، إلى «لبنان العربيّ». وهي العبارة التي ترضي الإسلام اللبناني الذي يفهمها على أنها تربط لبنان عضويّاً إلى البلدان العربيّة وتخضع مصالحه كدولة لكل مصلحة عربيّة أيّاً كانت». (ص. 109). وكعادتهم، يرفض أقطاب الجبهة اللبنانيّة أن يروا في تحالفهم الذيلي والمُهين مع إسرائيل (ألم يشتكِ بشير الجميّل، أسوأ لبناني على الإطلاق، بعد استدعاء مناحيم بيغن إيّاه بعدما نصّبه «رئيساً» على لبنان المُحتلّ، من تقريع بيغن له «كالأطفال»، وخاطبه بعبارة «يا غلام»؟) تناقضاً مع فرضيّة الميثاق الوطني الكاذبة. وتحليل لجنة البحوث عن الإسلام تقليد غير مُتقن للاستشراق المُبتذل، فيصبح حافظ الأسد نسقاً عن «معاوية» (ص. 107).
لكن بولس نعمان كان واضحاً في كلمته خلال الاجتماع المغلق في سيّدة البير. كانت الحركة النازيّة اللبنانيّة، بكل تجلّياتها الكهنوتيّة والمدنيّة، مُقلِّدة للحركة الصهيونيّة ومتوائمة معها. خاطبهم بولس نعمان مُستشهداً بنجاح الحركة الصهيونيّة (المُفترض) وقال: «يذكّرني هذا الاجتماع بمؤتمر «بال» الذي عقدته الحركة الصهيونيّة في نهاية القرن التاسع عشر... اليهود تكلّموا أقلّ منّا، وقرّروا إنشاء موطن لهم وحدهم في الشرق، حيث يستطيع كلّ يهوديّ العيش حرّاً وكريماً. الفارق بيننا وبينهم هو أن لدينا نحن وطناً نريده لنا ولكلّ طالب حريّة، وهم لم يكن لديهم. في اعتقادي، لا بدّ من إنشاء وكالة تنظّم جهودنا وتفعّل مقوّماتنا...». (ص. 158). والتماهي بين نظرة بولس نعمان لدور لبنان والفكرة الصهيونيّة يثبت في حديثه عن لبنان كـ«أرض ميعاد» (ص. 188) للموارنة، ونرى هذا الأثر في مقرّرات «البير». لهذا، فليس مستغرباً أن يشعر أقطاب الجبهة اللبنانيّة بـ«الارتياح» (ص. 191) لزيارة السادات للقدس، وأن يخشوا على حياته. هل من يشك للحظة بأن فكرة الوطنيّة القوميّة اللبنانيّة، إن وردت على ألسنة مسلمين أو مسيحيّين أو ملاحدة، ما هي إلا تجلٍّ محلّي لنشر فكرة الصهيونيّة في ربوعنا؟ الجبهة اللبنانيّة كانت رديفاً ذيلياً للحركة الصهيونيّة، لا أكثر، مثلما كانت ثورة (حرّاس) الأرز مشروعاً إسرائيليّاً في أساسه وإخراجه ولمساته، ولهذا استحقّ جون بولتون، الليكودي المتعصّب، «درع» الأرز.
ويزهو نعمان بنجاحه في إقامة علاقات مع منظمات سياسيّة ألمانيّة، دون أن يذكر أن تلك المنظمّات تنتمي إلى فصائل ما يُعرف في أوروبا بـ«اليمين الجديد» أو المتطرّف. ويستشهد نعمان بتقرير لحليفه الألماني يتضمّن تحقيراً وذماً للإسلام والمسلمين (ص. 228)، ويعتبر نعمان ذلك نصراً له لأنه كان يشكو من «الدعاية» الفلسطينيّة في أوروبا ضد ميليشيات اليمين في الحرب. يمكن نعمان أن يتيقّن من أن الحركات الفاشستيّة والنازيّة الأوروبيّة كانت متعاطفة مع معسكره في الحرب الأهليّة، وله أن يزهو بذلك. ولكن ماذا يمكن أن تتوقّع من الذي أراد من سيّدة البير أن تكون محاكاة لتجربة مؤتمر «بازل»، ومن الذي كتب مديحاً عاطفيّاً في شخص سعد حدّاد (ص. 268)، الذي تذكر المراجع العبريّة أنه بدا تعامله مع دولة العدوّ منذ 1972؟
لكن لجنة البحوث، التي كانت تضخ الدعاية الصهيونيّة والدعاية الطائفيّة، كانت شديدة الحماسة طيلة سنوات الحرب من أجل التعجيل في توقيع اتفاق سلام بين لبنان وإسرائيل. وهي، كما ورد في وثيقة لها (ص. 278)، لم تكن تعتبر أن هناك أي خلاف بين لبنان وإسرائيل، لا بل إنها سوّغت حروب إسرائيل واجتياحاتها للبنان لأنها كانت تستهدف العدو المُشترك، وكأن قنابل إسرائيل وصواريخها كانت تسقط على الرؤوس الفلسطينيّة دون سواها. تقرأ ذلك وتقدّر أهميّة هزيمة ميليشيات اليمين المتحالف ذيليّاً طبعاً مع إسرائيل. لو لم يتعرّض مشروع بشير الجميل ورفاقه للهزيمة

تماه بين نظرة نعمان لدور لبنان والفكرة الصهيونيّة في حديثه عن لبنان كـ«أرض ميعاد» للموارنة

الشنيعة لكانت أعلام إسرائيل ترفرف اليوم في أنحاء مختلفة من لبنان، ولكانت كتب التاريخ اللبناني تلهج بحمد إميل إده والمطران مبارك وألفرد نقاش الثلاثي الصهيوني الذي خدم استعمار فرنسا وعارض إنهاءه. ولو لم يُهزم الشقيقان الجميّل شرّ هزيمة، لكان أنطوان لحد قائداً لجيش «لبنان». (ص.459).
لكن الكتاب يتضمّن معلومات هامّة لم يقصد نعمان أن يدرجها، أو قصد ذلك لأغراض مختلفة. حقيقة الخلاف بين بشير وأمين الجميل تحتلّ أجزاء مختلفة من السرد. والحسد الذي كان يعمر صدريْهما بلغ درجة من التقاتل الشرس. والشقيقان كانا يحرّضان مفاوضهما السوري واحدهما ضد الآخر. ويذكر الكاتب معلومات عن علاقات تحت الطاولة بين بشير الجميّل وأطراف الصراع اليساري الإسلامي (أخطأت الحركة الوطنيّة اللبنانيّة في عدم مناهضة القوى التقليديّة الإسلاميّة في الجنوب والشمال وفي بيروت الغربيّة لأنها كانت تقف بالمرصاد كحصان طروادة لتقويض مشروع الإصلاح الجذري، حتى لا نتكلّم عن الثورة التي أجهضها الثلاثي جنبلاط حاوي إبراهيم بالتنسيق مع ياسر عرفات، وبالتوافق مع النظام السوري). ونقرأ أن لقاءً سرّيّاً عُقد عام 1977 بين مبعوث من بشير و«شخصيّة سعوديّة مهمّة». (ص. 181). ونقرأ كلاماً لكاظم الخليل يعتبر فيه أن سعد حدّاد كان «لبنانيّاً مخلصاً» (ص. 286). وتقرأ أن الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، الماركسي الديالكتيكي جورج حاوي، انحنى وقبّل صليب بولس نعمان في حفل للسفارة الفرنسيّة عام 1981.
لكن أخطر ما في الكتاب يتعلّق بالمفاوضات السريّة التي كانت تجري بين أطراف الصراع الأهلي. كان بعض القادة من الطرفيْن يتبادلون الأنخاب، فيما كان فقراء الجانبيْن يموتون في الشوارع. يروي نعمان، في ما يروي، قصّة لقاء سرّي مع وليد جنبلاط عام 1979، يقول: «فاجأنا الزعيم الاشتراكي بكلامه الصّريح على الدّور السوري»، معتبراً أنّ «الخطر السوري في لبنان يأتي في المرتبة الأولى، فيما الخطر الفلسطيني في المرتبة الثانية». (ص. 265). يكفي هذا الاستشهاد الصادر عن زعيم التجمّع اليساري الذي كان يخوض الحرب اسميّاً للدفاع عن الثورة الفلسطينيّة، وبـ«التلاحم» مع النظام السوري كما كانت أدبيّات بعض قوى الحركة الوطنيّة تقول. ورث وليد زعامة الطائفة، وزعامة الحركة الوطنيّة اللبنانيّة وزعامة «الجبهة العربيّة المُساندة للثورة الفلسطينيّة». لم يصدر عن جنبلاط أو عن حزبه بيان نفي لما ورد عنه في هذا الكتاب. كانت خطب جنبلاط مليئة بالثناء على سوريا وعلى الثورة الفلسطينيّة فيما كان يصارح أعداءه بحقيقة موقفه من «الخطريْن»، السوري والفلسطيني.
كان الاجتياح الإسرائيلي الذي أودى بحياة نحو 20،000 لبناني وفلسطيني، معظهم من المدنيّين والمدنيّات، الفرصة الذهبيّة لفريق التعامل مع إسرائيل. قال بولس نعمان عندما ورده نبأ قصف إسرائيل للبنان بالطائرات ما يلي: «وهذا ما كان يعني، بالنسبة إلينا، طيّ صفحة أليمة من تاريخ لبنان وبدء صفحة مفعمة بالأمل». (ص. 433). ويأخذ نعمان منحى هزليّاً في قضيّة اللقاءات مع ممثّلي العدو الإسرائيلي في لبنان (لا يذكر نعمان إذا كان قد تبع خطوات سلفه بالنسبة إلى زيارات دوريّة لإسرائيل «لتفقّد» أحوال الرعيّة المارونيّة في فلسطين المحتلّة). فهو من ناحية يقول إن بشير الجميّل كان يتجنّب إحراجه عبر إبقاء لقاءاته مع الإسرائيليّين في مقرّ القوّات اللبنانيّة، لبنانيّة بالاسم طبعاً، لكنك تجد نعمان يتبادل أطراف الحديث مع جنود الاحتلال وضباطه في موقع آخر من الرواية. (ص. 452). وسارعت لجنة البحوث في الكسليك لإرسال وفد إلى إسرائيل للقاء مع مختلف القطاعات هناك، وعاد الوفد بانطباع عن موافقة إسرائيل على «فكرة حياد لبنان على النمط السويسري» (ص. 462). لكننا نظلم مَن يؤيّد هذه الفكرة في لبنان اليوم إذا ربطنا بين مطالبتهم وبين أهداف إسرائيل في لبنان ومنه.
وتنتهي رواية بولس نعمان بكثير من الشجن والكآبة، وخصوصاً عندما يصل إلى مقتل بشير الجميّل. كانت نهاية حقبة لهم. كان يريد أن يُكرّر لهم بشير تجربة الصهيونيّة على أرض فلسطين ضد الديموغرافيا والجغرافيا والتاريخ وعلم الآثار. لم يكن لهم ما أرادوا، وما أرادت لهم إسرائيل. تبخّرت أحلامهم بسرعة، وابتعد بعضهم عن الأضواء. لا نسمع أخبارهم، وإن عاد بعضهم إلى البروز بعد انطلاق ثورة (حرّاس) الأرز وبعد اعتناق عقيدة النازيّة اللبنانيّة على يد آل الحريري. وتناسق هذا الاعتناق مع التحالف السعودي الإسرائيلي (الذي نقرأ المزيد عنه في كتاب ديفيد أتوي الجديد، «مبعوث الملك»). لكن مشروع سيّدة البير للاعتماد على إسرائيل من أجل إنشاء وطن قومي مسيحي بمسمّيات مختلفة مات ولن ينهض «كطائر الفينيق» ذاك المثال المُملّ. لكن حَمَلة مشروع إسرائيل في لبنان لم يتعرّضوا لمحاكمة أو محاسبة أو مساءلة. لكن للتاريخ حساباً آخر، من خارج صفحات مذكّرات بولس نعمان.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)