ميتران كان يحبّ الشاورما. أما الرئيس الراحل سليمان فرنجية، فلم يكن يجد للكبّة الزغرتاوية منافساً. وأنت تحاور أديب سكيني، طباخ الرؤساء، تدرك أنّك تتحدّث إلى موسوعة في فنّ الطبخ، صقلتها موائد قصور الرؤساء ومطابخها، ومعاهد الطبخ العالمية
محمد محسن
بدأت القصة مع رائحة «المجدّرة» الجنوبية. منذ صغره، اشتهى أديب سكيني مساعدة والدته في المطبخ. ومن بيت متواضع في قرية بلاط الحدودية، أتى الطباخ الصغير إلى العاصمة عام 1971 لدراسة فنون الطبخ. حينذاك، كان جهد الدراسة والبعد عن الأهل، أقل مشقّة من تحمّل الصورة النمطية السيئة لرجل يطبخ. أدار ظهره لكل ذلك، وركّز مجهوده في ما يهوى فؤاده. في سنوات دراسته الثلاث، نال سكيني علامات مشرّفة في اختصاص الفندقية، في معهد الدكوانة. ولأن الطبخ يرتبط بالموهبة أكثر من ارتباطه بالاختصاص، تفوّق في امتحان الدخول إلى مطابخ «مؤسسة دفوني» على متخرجين يفوقونه سناً ودرجةً تعليمية. في تلك المؤسسة التي خصّصت مطابخها للأغنياء، بدأ سكيني يمتلك بعض الأسس في التعامل مع الطبقة الثرية. هو الآتي من منطقة فقيرة جداًَ، تقتصر مونة مطبخها على أنواع الحبوب، وتدخلها اللحوم في ما ندر. وجد في مكان عمله الأوّل مأكولات تعرّف إليها للمرة الأولى.
«أشعر بأنّني آكل روحاً حيّة» قال له المستشار الألماني هلموت كول
هكذا، يروي كيف كان لزوجة رئيس مجلس النواب الأسبق كامل الأسعد زيارات متكررة للمؤسسة، لشراء لحم العجل الأبيض، الذي كان يعدّ ترفاً و«الكيلو منه بـ25 ليرة». سنتان في مطابخ «دفوني» اجتهد سكيني خلالها في تطوير معارفه وتثقيف حاسّة التذوّق لديه، بالاستماع إلى ملاحظات الزبائن ومعلّميه. فكبّة السمك التي يصفها بـ«المخضرمة» هي حصيلة ملاحظات تتعلق بنسب الزيت والزعفران والكزبرة «قبل أن أصل إلى التوازن في مكوناتها». وفي يوم كان سكيني يطبخ فيه المغربية، جاءه فرنسوا باسيل، كبير طهاة القصر الجمهوري في عهد الرئيس سليمان فرنجية، طالباً منه الانضمام إلى فريقه. بسرعة نضجت الفكرة في ذهن الطبّاخ الشاب. فتوجّه إلى قصر الرئاسة، ومن هناك بدأت رحلته مع الرؤساء. خلافاً لبعض طبّاخي القصور الرئاسية في العالم، لم يعدّ سكيني عمله دبلوماسياً. ومع أن الخطأ لم يعد كما كان أيام طبّاخي الملوك القدماء قاتلاً، فإنّ جلّ اهتمام سكيني كان التفوق، وتبييض وجه الرئيس أمام ضيوفه. ويروي سكيني عن فرنجية روحه المرحة مع موظفي القصر، وحبّه للكبّة «النيّة»، وللأقراص الزغرتاوية منها خصوصاً، المحشوّة بالشحم والجوز. بعد فترةٍ من عمله في القصر، تسلّم سكيني قسم «إعداد الصلصات». وبعد عامين، سافر إلى فرنسا لاستكمال دراسته على يد كبار الطباخين الفرنسيين، الذين يرى سكيني أنّ مطبخهم هو «الأوّل في العالم، لأنه يتمتع بدرجة راقية من حسّ التذوق». وخلال فترة دراسته، عمل في مطعم لبنانيّ، كان نقطة عبور باتجاه قصر الإليزيه عام 1989. هناك، وضع سكيني كل خبرته في الطهو، وخصوصاً بعد تسلّمه رئاسة المطبخ اللبناني في قصر الرئاسة الفرنسية. أحب العمل مع الرئيس فرنسوا ميتيران، الذي «كان عاطفياً وحنوناً على موظفي القصر، كما لفتتني بساطة حمايته الشخصية». ولميتيران مع المائدة اللبنانية قصّة حب، وخصوصاً في ما يخص «شاورما اللحمة، التي كان يضعف أمام رائحتها، وكنت أطبخها له بيدي»، يروي سكيني بفخر وتأثر.
من فرنسا، توجّه سكيني إلى إسبانيا، حيث عمل مديراً لمطابخ العاهل السعودي الراحل الملك فهد بن عبد العزيز، الذي كان يقضي بعض الصيف في أحد قصور منتجع «ماربيلا». كان على سكيني أن يضاعف مجهوده، إذ كان عليه وعلى طبّاخيه يومياً، إعداد موائد «على مدّ النظر»، و«أهرام من الفاكهة»، التي كانت تصل عبر الطائرات من أربع بقاع الأرض. لم يكن سكيني يرى الملك، لكنّه كان يعلم من مقربّي الملك حبّه لأكلة «الجريش، وهي قمح مكسّر ومطبوخ مع اللحم، كذلك، كان يحب الكبّة باللبن».
إلى عمله الثابت، كان سكيني مطلوباً لشهرته. ففي فرنسا مثلاً، طُلب منه اختراع أطباق تشبه شخصيات السندباد وعلاء الدين، وأبطال «ألف ليلة وليلة» لافتتاح «ديزني لاند» (1992). ولأن ذلك يتطلب وقتاً ومعداتٍ متطورة لا تقف عند حدود الطنجرة، أعير سكيني مطبخ متحف «اللوفر» لثلاثة أشهر، ثم اعتُمدت أطباقه في مطاعم المدينة الترفيهية.
وفي مطعمه «ليسكال»، الذي افتتحه حديثاً في الضاحية الجنوبية لبيروت، لا تكاد تنتهي قصة مع رئيس دولة حتى تبدأ قصة أخرى. في السعودية، أثناء تولّيه مسؤولية إعداد الولائم في أحد المنتديات الاقتصادية العالمية، طلب المستشار الألماني هلموت كول والرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان من سكيني إعداد طبق «سبيريبس»، وأساسه لحم الخنزير، الذي لم يكن متوافراً بالطبع في المملكة الإسلامية. لم يحتر سكيني، صاحب الخبرة الطويلة، فما كان منه إلا أن استبدل لحم الخنزير بلحم الغنم، ولكن ملفوفاً بورق العنب المغمّس بالزيت والحامض. ولمّا تذوق الرئيسان الطبق، أبديا إعجابهما الشديد، من دون الالتفات إلى غياب لحم الخنزير. يذكر سكيني يومها كيف قال له كول «شكراً لك. أشعر بأنّني آكل روحاً حيّة».
اخترع لديزني لاند أطباقاً من وحي سندباد وعلاء الدين
وأنت تتذوق طعامه، لا بد أن يأخذك الحديث إلى بعض النواحي الشخصية، المرتبطة بمهنته. بقي سكيني طوال فترة عمله في المطابخ العالمية، على حياته البسيطة. وتركت 39 سنة من العمل مع الطعام أثرها في نظرته إلى الحياة. بالنسبة إليه «أفضل شيءٍ في الحياة هو أمران: لقمة لذيذة تسكت الجوع وتريح الأعصاب، وكلمة جميلة يسمعها الرجل من أنثى». لكن، لا يعطي سكيني شهادة البراعة في الطبخ للأنثى، بل للرجل، لكنّه مع ذلك، يشير إلى أن زوجته ماهرة في بعض الطبخات الشرقية «بتعلم 50 بروفوسور إذا بدها»، وخصوصاً الكبة بلبن والشيش برك. حالياً، عاد سكيني إلى لبنان نهائياً «بدي إرجع عيش ببلدي، الحياة بالسفر ممتعة، بس كلها تعب وركض». ومنذ فترة، أسّس في الضاحية الجنوبية، مطعماً يشبه المطاعم الموجودة في وسط العاصمة، حيث أراد نقل نموذج المطاعم العصرية إلى الضواحي، بأسعارٍ تلائم سكانها. الطعام هو الرابط الأقوى بين الشعوب، لا الموسيقى. المعدة مفتاح التفكير عند السياسيين. يختم الطبّاخ مقابلته، شارحاً وجهة النظر هذه «هل يمكنك أن تعزف الموسيقى أو أن تفكر من دون معدة شبعانة ومرتاحة؟».


الطبخ للأسرة أيضا

كثيراً ما يخصص الشيف أديب سكيني يوماً في الأسبوع، ليذيق أسرته بعض الأطعمة التي يطبخها بيده. أكثر ما يفضّله الطباخ المخضرم، هو ثمار البحر، و«الأرز بدفين». ويهوى طبخ «الباييلا»، وهي طبخة إسبانية بثمار البحر تعود إلى أيام وجود العرب في الأندلس، وطبخة أوسترالية اسمها «الأوغافانغو» مكوّنة من الدجاج والخضر والتوابل.