يشارك نزلاء السجون في اختراع عالمهم. «يسنّون» قواعد عيش و«عقداً اجتماعياً» خاصاً بهم. هؤلاء الذين يحلمون بالحرية ليل نهار، يفبركون لغة غريبة لا تمتّ مفرداتها صصبصلة إلى القواميس المعتمدة خارج أسوار الزنازين
محمد نزال
في مجتمع السجون، يسمع المرء بالتأكيد تعابير ومصطلحات لا يفهم كنهها، إذ لا وجود لها في القواميس المحكية. كذلك تختلف العادات والتقاليد بين مجتمع وآخر، فالأمر نفسه ينطبق على السجون، فلكل سجن أدبياته وأسراره.
عند الحديث عن السجون في لبنان، تتبادر إلى الذهن مباشرة كلمة «رومية»، والقصد منها الإشارة إلى السجن المركزي الذي يضم نحو ثلثي مساجين لبنان.
فؤاد ومازن وعلي، ثلاثة أصدقاء دخلوا سجن رومية في فترات مختلفة. سُجن الأول لمدة 3 سنوات، أما الثاني والثالث فسُجنا لمدة سنتين. اجتمع الثلاثة ليتحدثوا مع «الأخبار» عن تجربتهم في «رومية»، وتحديداً عن المصطلحات «الغريبة» المتداولة بين نزلائه.
«السجن لي مرتبة، والقيد لي خلخال، والمشنقة يا عاهرة مرجوحة الأبطال» كلمات من «قصيدة» يرددها علي (26 عاماً)، ويجيب بها متباهياً عندما تسأله عمّا حفظه من أدبيات رومية. يتذكر الشاب العشريني لحظة وصوله إلى نظارة السجن، عندما اعترض على خلع سرواله الداخلي أثناء مرحلة «التفتيش»، لكن «كفّ» رجل الأمن على خده كانت كفيلة بدفعه للتراجع عن اعتراضه. يهزأ علي بـ«تخلّف» رجال الأمن الذين ما زالوا يفتشون المساجين بطرق بدائية، «فيما بات العالم كله يستخدم أجهزة إلكترونية تُمرر على الجسد، فتظهر أي ممنوعات مخبّأة إذا وجدت». بعد التفتيش، أُخذ علي إلى الحلاق «فجزّ لي شعري على الصفر، ذاك الحلاق العنيف الذي يمكن أن يكون أي شيء إلا حلاقاً».
وصل علي إلى الغرفة التي كان عليه أن يعتاد جدرانها، فوجد فيها سبعة سجناء صار هو ثامنهم، «رغم أنها لا تتسع إلا لشخصين أو ثلاثة، لذلك كنا ننام على جنب واحد».
«الخدم» سجين «مقطوع من شجرة» وتُعهد إليه أعمال التنظيف ليأكل من طعام الآخرين
«أهلاً بك في رومية» ترحيب سمعه علي من «شاويش الغرفة»، وهو لقب يحمله «أقدم» النزلاء في الغرفة، فهو يصبح خبيراً في شؤون نزله، ويتواصل مع «شاويش الطابق»، وهو، في غالب الأحيان، أقدم سجين في الطابق، يتواصل بدوره مع حراس السجن. «أنت اليوم سجين دخول»، قال له الشاويش. لم يفهم علي العبارة، جاءه الجواب سريعاً «يعني سجين وافد جديد، والليلة ستنام قرب الياسمينة». ابتسم «سجين الدخول» لهذا الترحيب الجميل «بعد مشوار طويل من البهدلة». لكن ظنه قد خاب عندما اكتشف أن «الياسمينة» هي ليست سوى «جورة الحمّام» (بيت الخلاء) التي يجب على كل سجين جديد أن ينام بقربها كل ليلة «ويستمتع بعطرها الفواح» إلى أن يصل سجين جديد آخر. تقع «الياسمينة» في زاوية الغرفة، وليس بالأصل ما يحجب نظر الموجودين عمّن يقضي حاجته، لولا أن المساجين أنفسهم يرفعون غطاءً قماشياً طويلاً، ويضعون على الأرض قطعاً من ثيابهم البالية بشكل زاوية، لمنع الماء من التسرب إلى الغرفة أثناء الاستحمام.

أروانة ويطأ وخابور

يؤكد فؤاد أقوال صديقه علي، ثم يبدأ الحديث عن يومياته في رومية. يستيقظ السجناء عند الساعة 7 صباحاً، ومن يبقَ منهم نائماً يعمد الشاويش إلى إيقاظه بالقوة، ويفرض عليه أن «يضب يطأه»، اليطأ في لغة «رومية» يعني فراش النوم والبطانية. بعد ذلك، يوزع رجال الأمن فطور «الأروانة» على الجميع. ما هي «الأروانة»؟ يجيب فؤاد (25 عاماً): «هي كلمة يستخدمها السجناء للإشارة إلى كل ما هو وضيع بقيمته أو قليل الأهمية». السجين الميسور لا يأكل طعام السجن غالباً «لكن الفقير ومن لا يصله طعام خاص من ذويه يضطر لأكل الأروانة». يكون الفطور عادة عبارة عن بيضة مسلوقة و 7 حبات زيتون، أو قطعة حلاوة، أو مربى «أشبه بالجل الذي يوضع على الشعر». أما طعام الغداء «فلا يأكله إلا من شارف على الموت جوعاً» يقول فؤاد. يتذكر السجين السابق أكلة «الدجاج والرز، التي لا يمكن بلعها، وأقسم لك إنها لو وضعت للحمار لما أكلها، بل لكان هرب من نتن رائحتها».
الحاجة أم الاختراع، عبارة تتخذ بعداً أكثر أهمية في سجن رومية. بعض السجناء اعتادوا خلال حياتهم خارج القضبان شرب القهوة كل صباح. ولكن، كيف لهم ذلك في السجن، وهم لا يملكون أية وسيلة لغلي الماء. يبتسم فؤاد وهو يتحدث عن «الخابور». يبادر إلى شرح هذا المصطلح، فالخابور عبارة عن عصا خشبية «نلف على طرفها قطعة قماش، ثم نغطيها في الزيت ونشعل النار فيها. نضع فوق النار ركوة القهوة حتى تقترب ماؤها من الغليان، وبعدها نلقّم القهوة». يحصل السجناء على البُن وبعض الحاجات من الخارج، يحملها إليهم ذووهم أثناء «المواجهة». هكذا يسمي سجناء رومية زيارة ذويهم لهم في السجن.

«معجم» رومية

لو أمكن جمع كل المصطلحات المنتشرة بين السجناء، لأصبح لدينا معجم أو قاموس للغة جديدة، لا يمكن أحداً أن يسمع مفرداتها إلا في سجن رومية. يحصر مازن أفكاره لتذكر جميع الكلمات التي تعلمها في السجن. هناك مخدرات داخل السجن نفسه، حقيقة تؤكدها بعض التقارير الأمنية وما يعلن عن ضبطه بين الحين والآخر، وقد أُعلن أيضاً أن بعض رجال الأمن يشاركون في عمليات «التهريب».
يقول مازن إن حبوب الهلوسة المنتشرة داخل السجن تسمى «دولاب». كلمة تُستخدَم لتضليل «بازق الدينة»، والأخير هو سجين يتعاون رجال الأمن معه لـ«التجسس» على بقية السجناء. يضيف السجين السابق: لدينا في رومية «أسنسير»، وهو عبارة عن حبل يُربَط بطرفه كيس من النايلون، ويُستخدَم لتبادل الحاجات بين السجناء الذين يقيمون في طوابق مختلفة. يمد السجين يده إلى الخارج ويضرب على الحائط. يعرف عندها سجين الطابق الأسفل أن «الأسنسير» قد وصل. لا تُحَبَّذ «محاضرات النصح» في رومية. فعندما يسمع أحدهم سجيناً يؤنّب سجيناً آخر، يقول له: «سيبو في الخر... يلمع». يضحك مازن ممازحاً «هو سجين، فما حاجتهم للمزايدة عليه؟ ما هوّ سجين». أيضاً، هناك «الخدم»، وهو السجين «المقطوع من شجرة» الذي لا يواجه ذويه ولا يصله أي دعم من خارج القضبان. يعهد إليه تحضير الطعام والشاي، فضلاً عن أعمال التنظيف اليومية، «ويُعطى أجراً على ذلك سيجارة أو أكثر، إضافة إلى كونه يأكل من طعام الميسورين».
أخيراً، يتحدث مازن عن التمييز بين السجناء من السجناء أنفسهم، وذلك بحسب القضية التي يدخل بسببها المرء إلى السجن. مثال على ذلك، أنّ سجناء «القتل أو جرائم الشرف» هم الأعلى مرتبة «والأكثر احتراماً»، أما سجناء الاغتصاب أو الاعتداء على قاصر، أو المعتدي على والديه، فإنه يكون «مهاناً ذليلاً بين بقية السجناء».


تطوير برامج التأهيل ضرورة

يصر رئيس جمعية «عدل ورحمة»، الأب هادي عيا، على رفض النظرة الدونية إلى السجناء، ويشدد على أنهم «بشر مثلنا، لديهم طاقاتهم ومواهبهم، وما اختراعهم لمصطلحات خاصة بهم إلا دليل على أنهم خلّاقون ومبدعون». يذكر عيا على سبيل المثال كلمة «أرنب»، وهي من المصطلحات الرائجة في سجن رومية، وتُطلق على كل سجين مثليّ الجنس. يشير رئيس الجمعية التي تعنى برعاية السجناء «اجتماعياً وإنسانياً على قدر المستطاع»، إلى البرامج التي بدأت بها الجمعية لتأهيل السجناء، ومنها برامج تنمية المواهب، حيث ظهر أن بعض القابعين خلف القضبان يملكون مواهب مختلفة، مثل صناعة الفخار والرسم عليه، إضافة إلى الأشغال اليدوية التي يدل بعضها على «حرفة كبيرة».
أخيراً، يوجه عيا سؤال إلى المسؤولين عن السجون، «كل شهر يدخل إلى السجن نحو 600 إنسان، ويخرج مثلهم أيضاً كل شهر، فإلى أين نخرّج هؤلاء؟ إلى أي مجتمع نخرجهم في ظل ضعف برامج إعادة التأهيل؟». ويدعو عيا إلى تعليم السجناء، فهم بشر مروا بظروف خاصة جعلت منهم ما هم عليه اليوم، لكن «جربوهم بالتعليم والتأهيل، وسترون ما يدهشكم».