البقاع ــ رامح حميةشوارع فارغة، منازل اجتاح العشب والشوك مداخلها، مدارس مقفلة، وأزقة خلت من «شيطنات» بعض الصبية، تبدو البلدة في الشتاء موحشة كئيبة يتردد فيها صدى سؤال: «وينن؟»، يأتيك الجواب من قلة بقوا هنا أمثال علي مشيك الرجل الستيني: «فلوا ع بيروت. بالشتي ما بيبقى حدا يا عمي إلا تلات أربع بيوت بس»!
هي ليست قصة. ولو أن الحزن يفرض أسلوب الكلام. هذا هو الواقع هنا في بعض قرى غرب بعلبك التي تشهد منذ سنوات حركة نزف مستمرة في طاقاتها البشرية باتجاه «المركز» بيروت وضواحيها. نزف من هذا النوع خطر على المناطق العامرة، فكيف بتلك الفقيرة أصلاً؟ وربما كانت المدارس هي المؤشر الأساس للقتل الرسمي المنظم للمناطق. فقد أقفلت في السنوات الأخيرة سبع مدارس رسمية بعدما عانت شحاً بالأساتذة وندرة بالتلامذة، إثر انتقال الأهالي إلى بيروت والضواحي، سواء من أجل العمل أو ضرورات الحياة والمعيشة.
ويرى سليمان مشيك المدير السابق لمتوسطة رماسا الرسمية في مزارع بيت مشيك أن نزوح الأهالي من البلدة على مر السنوات الأربع الأخيرة كان السبب الأساسي لإقفال المتوسطة، حيث وصل عدد التلامذة قبل عام من الإقفال إلى اثني عشر تلميذاً. وأوضح مشيك أن «الأهالي الذين آثروا البقاء هم الموظفون الإداريون والعسكريون ضمن البقاع وعدد من المزارعين الذين يملكون أراضي زراعية في سهل بلدة السعيدة»، ويلفت المدير السابق إلى أن مشكلة النزوح قضت على سبع مدارس رسمية في غرب بعلبك وهي: رماسا وجبعا ومزرعة التوت والسعيدة ومصنع الزهرة وعين السودا ومجدلون، مؤكداً أن مشكلة النزوح إن لم تُعالج في المنطقة «بمشاريع تؤمن العمل للشباب وجامعات فيها كل الاختصاصات، فلا بديل عندها من ازدياد نسبة الإقفال للمدارس»، مرجحاً إقفال مدرستين في المنطقة خلال هذا العام.
الشلل هي الكلمة المفتاح بالنسبة لرئيس بلدية جبعا عاطف زعيتر. يقول لـ«الأخبار» إن النزوح من القرى البقاعية «يولّد شللاً كاملاً في المنطقة، ليس في المجال التربوي فقط بل الاقتصادي أيضاً». مشيراً إلى ازدياد سريع في حركة الانتقال إلى بيروت تشهده قرى وبلدات غرب بعلبك، وخاصة أن «نسبة النزوح في جبعا فاقت 75% وهي في الشتاء شبه خالية إلا من بعض العجزة والعسكريين والموظفين». ولفت زعيتر إلى أن أبرز تداعيات النزوح تجلى بإقفال متوسطة البلدة في عام 2003 بعدما عانت ندرة التلامذة فأُلحقت بمتوسطة كفردان الرسمية المجاورة. وطالب زعيتر الدولة بإقامة «المشاريع الإنتاجية» التي توفر فرص العمل للشباب بالإضافة إلى «إنشاء الجامعات حيث يجد طلاب المنطقة ما يرضي طموحاتهم ومشاريعهم العلمية المستقبلية». أما مختار بلدة عين السودا أحمد عمر فقد أكد أن متوسطة البلدة أقفلت في عام 2005 بعدما وصل عدد التلامذة فيها إلى 12 في كل المراحل، ما استدعى نقلهم إلى مدرسة مجدلون التي أقفلت بدورها بعد عام أيضاً. ويعزو عمر السبب في إقفال المدرسة إلى عدم توافر الأساتذة وندرة التلاميذ بعدما نزح غالبية أبناء القرية إلى بيروت بهدف تأمين رزقهم.
من جهته، شبّه المربي حسني مشيك النزوح الحاصل من القرى والبلدات البقاعية بـ«النزف الريفي القاتل»، ويعزو ذلك إلى غياب الرابط بين الفرد وأرضه، والمتمثل بالسياسة الإنمائية «المغيبة» عن منطقتنا، وخاصةً أنها تضع الحوافز الأساسية لجعل المواطن يبقى في بلدته وقريته، ومنها المؤسسات الإنتاجية والزراعية والصناعية، موضحاً أن منطقتنا لا وجود فيها لطب بيطري قد يحتاج له مربو المواشي، ولا لمؤسسة أو مصرف زراعي لدعم المزارعين وتسليفهم، وحتى لروزنامة زراعية ومواعيد منتظمة للزراعات والتصريف، وتساءل: «بعد هذا كله كيف سيبقى مزارع في أرضه؟!». وذكّر مشيك بأنه خلال افتتاح إحدى المدارس الرسمية في المنطقة وبحضور وزير التربية عبد الرحيم مراد، كان لمشيك كلمة ترحيبية تناول فيها أن قرانا لا تحتاج حالياً إلى مدرسة بل إلى تنمية على صعيد المؤسسات تؤمن بقاء أهالي هذه القرى، وبالتالي دخولهم إلى المدرسة. ولفت مشيك إلى أنه شارك في دراسة تتصدى لإقفال معمل الشمندر السكري في عنجر، فأكد أن الدولة أخطأت حين قررت إقفال المعمل واستيراد السكر من الخارج بذريعة أن ذلك أوفر، لكننا في الدراسة أثبتنا أن المعمل يؤمن من جهة العمل لمئات العمال والموظفين من القرى البقاعية كلها، وهؤلاء جميعاً يساهمون في الدخل الوطني، ومن جهة ثانية يوفر زراعة الشمندر لمئات المزارعين وعلى امتداد السهل، ناهيك عن عائلاتهم. وأكد مشيك أن النزوح «فعل فعله» في قرى بيت مشيك حيث لا تقل نسبة النزوح في بعضها عن 75% لتصل في بعضها الآخر إلى 90%، وهو الأمر «الخطير جداً حيث اندثر اقتصاد الرعي في المزارع وأصبح بائداً لأنه لم يبق من مربي المواشي في هذه المنطقة المهجورة إلا اثنان فقط في مزرعتي قلد السبع ورماسا». اثنان فقط. نسينا أن نسأله إن كانا مجرد رجل وزوجته. على الأرجح أنهما كذلك.


جامعيّون «يرتحلون أكثر مما يتعلّمون»

يرتحل غالبية الطلاب الجامعيين يومياً من البقاع الشمالي إلى زحلة والبقاع الغربي، فيما يحزم الباقون أمتعتهم فيودّعون أهلهم، وينزحون إلى بيروت للإقامة في مساكن جامعية. يقصد الطالب علي الرشعيني (سنة رابعة معلوماتية وإدارة أعمال) يومياً مجمع عمر المختار التربوي في بلدة الخيارة في البقاع الغربي، قاطعاً مسافة لا تقل عن 300 كلم ذهاباً وإياباً، لكونه يسكن في بلدة القصر، في قضاء الهرمل، على الحدود السورية اللبنانية. يمضي علي أكثر من ثماني ساعات على الطريق بغية متابعة محاضرة أو اثنتين. يشكو الشاب من غياب المعاهد والجامعات في بعلبك ـــــ الهرمل من جهة، وعدم توافر القدرة المالية على الانتقال للسكن في بيروت، أو حتى في البقاع الغربي من جهة ثانية. فرحلة علي اليومية تبدأ بركوب «فان» بات يتعامل معه دائماً، فينقله من بلدته القصر إلى مدينة زحلة فقط، مقابل أجر شهري قدره 100 دولار أميركي، يرتفع مع ارتفاع أسعار المحروقات، ولا ينخفض عن هذا الحد، ليكمل بعد ذلك طريقه بالـ«سرفيسات» أو «الأوتوستوب» إلى جامعته، ويكرّر الطريقة ذاتها في طريق العودة، لكن بالعكس.
ويعدّ تمركز الجامعات في مدينة زحلة العائق الأساسي أمام أهالي البقاع الشمالي، بالنظر إلى الأعباء المادية والجسدية التي يواجهها الأهالي وأبناؤهم الطلاب. وترى الطالبة في السنة الثانية علوم الحياة فردوس جعفر (19 عاماً)، من بلدة «سهلات الماي» في قضاء الهرمل، «أن اجتياز مسافة 200 كلم يومياً ليس بالأمر السهل عليها، فاختصاصها يتطلب الحضور اليومي، فضلاً عن عدم قدرة أهلي على تحمل الأعباء المتمثلة بأجر الفان، أو عبء السكن في بيروت المحفوف بالكثير من العوائق المادية والاجتماعية». أما حسين عمار، من بلدة اللبوة، فيلفت إلى أن فترة الذهاب إلى الجامعة والإياب منها تستغرق وقتاً أكثر من الفترة التعليمية «إذ نقضي على الطريق ما يقارب ثلاث ساعات، فيما لا يتجاوز عدد المحاضرات الاثنتين على أبعد تقدير، وعندما يغيب الأستاذ المحاضر، نعود أدراجنا وسلّتنا «فاضية»!». وعن الانتقال إلى بيروت يقول: «البقاء في المدينة مكلف جداً ويمثّل عبئاً مادياً إذا احتسبنا أجرة الغرفة التي سأسكن فيها، والتي لا يقل إيجارها عن 200 دولار، فضلاً عن رسوم التسجيل ومصاريف التنقّلات، وثمن الكتب الجامعية».
بعض البلديات في البقاع الشمالي تحاول مساعدة طلاب الجامعة، سواء المقيمون في البقاع، أو أولئك الذين نزحوا إلى بيروت، وذلك بما تيسّر من توفير ثمن بعض الكتب والأقساط، وتصوير المحاضرات وتوفير السكن لبعض الطلاب الفقراء والمتفوقين، فيما يبقى على كثيرين تحمّل تبعات تأخّر الفانات.
رامح