يتبدّل المشهد صعوداً من ساحل المتن إلى جرده: تنخفض الحرارة، تقلّ السيارات، تضيق الطرقات وتصبح أكثر خطراً. يدفع أهالي بسكنتا، المرتفعة 1200 متر عن سطح البحر، ثمن هذا المشهد بالتخلّي عن بلدتهم شتاءً
بسكنتا ــ رندلى جبور
مع سقوط أوراق الخريف، «يسقط» حوالى نصف سكان بسكنتا إلى الساحل. «بيضبّوا الصيفي وبينزلوا الشتوي» في صناديق السيارات، التي تتوجه خصوصاً نحو ساحل المتن والأشرفية. وبسكنتا تبدو الأكبر من حيث المساحة، وعدد السكان بين بلدات وسط المتن وجرده. وهي مكتفية ذاتياً: أربع مدارس، محطة وقود، سوبرماركت وصيدليات ودكاكين ومركز بريد ومحالّ ألبسة وأدوات منزلية. لكن في المقابل عوامل كثيرة تدفع 60% من أهلها إلى تركها شتاءً، بعدما كانت نسبة النازحين منذ عشر سنوات 30%. والسبب الأبرز هو الوضع السيّئ للطرقات، علماً أن المسافة من بيروت لا تتجاوز الأربعين كيلومتراً. ويشير إيلي عاقوري، أحد أبناء بسكنتا، إلى أن مشاريع كثيرة لأوتوسترادات تصل الساحل ببسكنتا صمّمت منذ أعوام طويلة مع وقف التنفيذ «ولو أنّها نُفّذت لبقي أهالي بسكنتا فيها»، لأن التنقّل يصبح أكثر سهولةً، وأقل خطراً. ويقول عاقوري: «يهتم المسؤولون ببيروت ويهملون الأرياف فيما الحل هو في إنمائها».
إذا بقي الوضع على حاله ستفرغ المناطق الريفية كلياً بعد عشر سنوات
ويتفرع السبب الثاني من الطرقات: فلا جامعات في الجرود. ويضطر الطلاب إلى ترك منازلهم للعيش في «فواييه» بقربها حيث تكون. والنتيجة شرخ في العائلة. طبيب بسكنتا والجوار قديماً د. جوزف لطيف لم يترك بلدته قط. لكن وصول أولاده إلى مرحلة الجامعة دفعهم إلى الساحل، أمّا زوجته، فتقسم أسبوعها «بين الساحل مع الأولاد والجرد مع زوجي». مطالب لطيف تبدأ بتحسين الطرقات، وإيجاد فرص علم وعمل، ولا تنتهي بالتدفئة وإنشاء معامل وشركات.
التدفئة تشير إلى السبب الثالث، وهو الأوضاع المعيشية الصعبة. ففي منطقة جبلية مثل بسكنتا، البيضاء شتاءً، التدفئة ضرورة وتوفير المازوت والمحروقات بكمية كبيرة لتغطية الحاجة في العواصف والثلوج يحتاج إلى أموال كثيرة. لذا يتوجّه الناس ساحلاً بهدف التوفير، مسبّبين بدورهم أزمة معيشية في المناطق المتروكة: إذ تتراجع الحركة الاقتصادية في الجرد بنسبة 50% تقريباً، وتشير محاسبة في سوبرماركت في بسكنتا إلى أن نسبة المبيع تنخفض في الشتاء إلى الثلث «لكن الصيف يغطي أحياناً خسائر الشتاء». ويسارع أحد الشباب في سناك في البلدة إلى وصف الوضع في الشتاء «بالميت ولا شيء إلا الكريب، ولكن إذا تركنا بيموتوا الناس من الجوع». حركة المدارس في بسكنتا تغطّي بعضاً من فراغ الشتاء، وخصوصاً أنها تستقطب طلاب البلدات المجاورة. لكن الثلوج تقفل أبوابها أياماً كثيرة، هي التي تفتح كما «البوزانسون» مثلاً وفق نظام قديم من الثلاثاء إلى السبت، فيما عطلتها الأسبوعية يوما الأحد والاثنين لقلة عدد الأساتذة الذين يضطرون إلى العمل في أكثر من مدرسة.
وإذا كان الطلاب يحركون جماد بسكنتا المتخلّية عن نصفها شتاءً، فإن الحركة تنعدم كلياً في البلدات الصغيرة القريبة، كعين القبو وكفرعقاب ووادي الكرم وغيرها، باستثناء بعض الكشفيّين الذين يخرقون الهدوء الثقيل.
ويشير رئيس بلدية كفرعقاب، بيار معلوف، إلى نزوح 90% من أهل البلدة شتاءً، وبقاء 27 منزلاً مأهولاً من أصل 210 منازل. ويقول: «لازم تعمل ألف حساب وأنت تسلك الطريق وين بتتهوّر؟ وبأيّ وادي بتوقع، وبأي جورة بتتكسر سيارتك»، وخصوصاً أن مدرسة البلدة أقفلت منذ عام 1985، ولكن «أي تحسين في الطرقات أو أي استثمار قد يغيّر الوضع». أمّا من يبقى في البلدة طيلة أيام السنة، فهو إما موظف في مركز الهاتف، أو فقير لا يستطيع التملك أو الاستئجار في الساحل، وإمّا من لا عمل لديه، ويتلقّى مساعدات من أولاده وأقربائه المسافرين.
وقد لا تصادف سيارة في عين القبو، حيث ثمّة خمسة منازل مأهولة شتاءً. والأسباب هي نفسها، وفق ما شرح المختار رشيد الحاج.
«كل ما هو مطلوب شويّة إنماء متوازن. هالقد صعبة؟»، يسأل طبيب بسكنتا القديم، ويضيف «إذا بقي الوضع «هيك» ستفرغ المناطق الريفية كلياً بعد عشر سنوات»، ثم يهزّ برأسه آسفاً.