يتوقف عند مفرق نهر إبراهيم بضعة سائقين. لا يكاد هؤلاء يتغيرون عبر السنوات. يسترزقون بإقلال الناس إلى قرى الجرد العالية في منطقة لم تعرف النقل المشترك بحياتها. لكن نهر إبراهيم تضخمت بالمسوحلين من جردها، وتحولت من مجرد مفرق إلى بلدة
نهر إبراهيم ــ جوانّا عازار
أكثر من 4000 شخص يسكنون بلدة نهر إبراهيم في قضاء جبيل. هؤلاء يُقسَمون بين السكان «الأصليّين» الذين سكنوا البلدة منذ زمن بعيد، و«الجدد» الذين وفدوا من بلدات جرد بلاد جبيل كالعاقورة، قرطبا، المغيرة، يانوح والبلدات المجاورة، وقد تزايد عددهم في السنوات الثلاثين الأخيرة. بعض هؤلاء يعودون في فصل الصيف إلى ضيعهم الأمّ، لكنهم يمضون فصل الشتاء في نهر إبراهيم. هذه الضيعة التي تمثّل بوابة جبيل الجنوبيّة، صارت أشبه بمدينة تجمع بين الزراعة، التجارة والصناعة. فأبناؤها هم أوّل من بدأ بزراعة القشطة قبل أن تنتشر في البلدات اللبنانيّة. وهم من نشط في زراعة الحمضيّات والموز. أمّا صناعيّاً، فإنّ في نهر إبراهيم منطقة صناعيّة تضمّ مصانع للكابلات، الباطون الجاهز، الزيت النباتي، البلاط، الشامبو ومستحضرات العناية وغيرها... ينقسم أصحابها والموظّفون فيها بين أبناء نهر إبراهيم وغيرهم. تجاريّاً، تضمّ البلدة سوقاً تجاريّاً «ع قدّ حالو» لمحالّ، منها الألبسة وألعاب الأطفال والنوفوتيه. أما الأهم فيها، فتحولها بسبب السوحلة، توفيراً لأجرة نقل المُنتَجات الزراعية إلى المدن، إلى سوق لبيع الخضار بالجملة والمفرّق، وهو سوق ذاع صيته قبل أن ينتقل جزء كبير منه منذ فترة قصيرة إلى بلدة حالات المجاورة.
البلدة التي تجمع الفلاحين، الأطباء، المهندسين، المحامين وغيرهم سكنها أهل المواطن طوني بو يونس، وهم في الأصل من بلدة العاقورة. لكن طوني ولد في نهر إبراهيم ويعيش فيها هو وأولاده، وهو يقول «إنّها ضيعته الثانية»، فهنا كبر وعمل وأسّس شركة له، وفيها يربي أولاده حيث تمكث العائلة اليوم صيفاً وشتاءً. قلائل مَن يسكنون شتاءً في العاقورة، النائية البعيدة الخالية من أي مرافق تستحق هذا الاسم. وهنا أيضاً يسكن 14 بيتاً من أقارب بو يونس، ولا سيّما أولاد عمّه. ماذا أفاد السكّان الجدد البلدة؟ يقول بو يونس: «اسألوا سكّان البلدة الأصلييّن، وهم يجيبون». بدوره، نائب رئيس بلديّة بلدة يانوح، فادي أبو زيد، الذي سكن أهله نهر إبراهيم منذ أكثر من 25 سنة يقول عن أهلها: «لا مشكلة لدينا مع أبناء البلدة. نعزّهم ونحبّهم ويعزّوننا ويحبّوننا»، مضيفاً: «نحن نؤدّي واجباتنا على أكمل وجه، ويبقى أنّنا نزور بلدتنا الأصليّة يانوح، وخاصّة في فصل الصيف وفي عطل نهاية الأسبوع، ويمكن اعتبار نهر إبراهيم بلدتنا الثانية». فيما يقول أحد أبناء البلدة الأصليّين إنّ «البلدة كبرت بفضل جهود أبنائها والأبناء الذين وفدوا إليها عبر السنوات الماضية، وهي تبقى المركز الساحليّ الذي يستقطب أبناء الضيع المجاورة». عائلات غانم، مطر، راعي، محفوظ، ضوّ، شلفون وغيرها هي العائلات الأكبر في نهر إبراهيم، البلدة التي تبعد 47 كلم عن بيروت عاصمة لبنان، والتي ترتفع 220 م عن سطح البحر ممتدة على مساحة 341 هكتاراً. هنا، على ساحل البحر المتوسط، يصبّ نهر إبراهيم الذي ينبع من أفقا ومغارتها الشهيرة. وقد سمّي كذلك بسبب أسطورة تقول إنّ أدونيس دُفن على ضفافه، وإنّ دم البطل المجروح جرى في النهر فأعطاه اللون الأحمر. أمّا اسم إبراهيم فيرتبط براهب اسمه إبراهيم، أرسله سمعان العموديّ، فبشّر المنطقة بالديانة المسيحيّة. ورغم وجود هذا النهر، فإنّ أبناء البلدة يتعطّشون لمياه الشفة، وخاصّة أنّ مشروع المياه الجديد المخصّص للمنطقة لم ينجح حسب تعبيرهم. من هنا، فإنّهم يرون أنّ المشاكل الإنمائيّة والحياتيّة التي تواجه ضيعتهم هي شبيهة بتلك التي تواجه الضيع اللّبنانيّة عموماً. ويقول أحد أبناء البلدة إنّ «وضع الضيعة الإنمائيّ وسط، تماماً كضيع بلاد جبيل»، دون أن نتجاهل دور البلديّة في البلدة، وممّا تعمل عليه حاليّاً بناء مدرسة رسميّة جديدة تحلّ مكان بناء المدرسة المتوسّطة الرسميّة القديمة. وسياحيّاً يأسف الأبناء لغياب المطاعم والمقاهي في المنطقة، وخاصّة أنّ نهر إبراهيم منطقة سياحيّة وأثريّة (فيها الجسر الروماني فوق النهر، قناطر زبيدة وكنيسة مار جاورجيوس الأثريّة). من هنا، سعت لجنة التراث والفنون إلى إدراج نهر إبراهيم على لائحة التراث العالميّ من دون أن ينجح الأمر حتّى الآن. أمّا ثقافيّاً، فلا بدّ من الإشارة إلى المكتبة العامّة التي أنشأتها البلديّة في البلدة منذ عشر سنوات، فضلاً عن المهرجانات السنويّة التي تستضيفها، من دون أن نغفل الصيت الرياضي الذي ذاع عن أبناء نهر إبراهيم، إذ «يحسب لهم الحساب» في لعبة الكرة الطائرة على مستوى لبنان.
لكن أبناء نهر إبراهيم، الحائرين بتسقّط الرزق بين البحر والجبل، يعيشون هنا، وهم يكادون يسدون أنوفهم حماية لأنفسهم من الضرر البيئي الناتج من بعض المصانع في البلدة، الذي يتصاعد على شكل دخان، أو يُرمى في مياه المنطقة، أو لا يمكن رؤيته، كالذبذبات الكهروماغناطيسية، بالعين المجردة.