محمد شعير
محمود الورداني على مشارف الستّين. أربعة شهور تفصل بين صاحب «أوان القطاف» وبلوغ سن «التفرّغ» التامّ للكتابة، بعدما ظل خلال السنوات السابقة موزّعاً بين العمل في الصحافة والكتابة الروائية، والعمل السياسي، الذي قاده إلى السجن مرات عدّة... كان آخرها منذ ثلاثة أعوام، حين قُبض عليه خلال تظاهرات مطالِبة بتعديل الدستور.
«اليتم» هي الكلمة المناسبة التي أدخلت الورداني إلى عالم الكتابة. بعد ولادته بعامين، مات والده، فكبر الطفل قبل أوانه. أصبحت والدته ملزمة بإعالة ثلاثة أطفال. من هنا، اضطر الورداني إلى العمل خلال طفولته: بائع ثلج، عاملاً في مطبعة... وعندما ضاقت بهم الحياة، سمحت الأم لأسرة والده بأن تشاركها في تربية الأبناء، فانتقل الورداني للعيش لدى عمته الثرية «كانت تسكن في فيلا، ولديها بيانو ومكتبة ضخمة» يقول. لكن هذه الأشياء أشعرته بغربة وألم الفراق عن والدته. تغلّب على هذه الآلام بالقراءة، التي أصبحت بديلاً للأم، وخصوصاً قراءة الروايات التي «تصنع عالماً من البهجة». وأصبح «الخيال» البديل لمواجهة عالم اضطر إلى الانصياع له. لاحقاً، تحوّل الولع بالقراءة إلى «ولع بالكتابة»، التي أصبحت «السبيل الوحيد لمقاومة الجنون والإحباط الشخصي والعام. وهي أيضاً محاولة للتعرف إلى نفسي أو العثور عليها، كما أنها الممارسة الوحيدة للحرية، وسط هذا القمع غير المسبوق الذي نعيشه» كما يقول.
ربما لهذا، يبدو «الفقد» التيمة الأساسية المسيطرة على أعماله. في روايته «طعم الحريق»، يبحث الراوي عن أمه التي استيقظ ذات صباح فلم يجدها في البيت. وفي «موسيقي المول»، نرى شخصاً يهبط فجأةً في مدينة يراها لأول مرة. شخص بلا ملامح في مدينة بلا ملامح ويظل يبحث عن ملامحه: «الفقد إحدى التجارب المستمرة في حياتي». لم يكن فقد الأب وحده، بل يقول «نحن كجيل (السبعينيات) فقدنا كل ما نحلم بتحقيقه. لذلك، فالفقدان تيمة أساسية في حياتنا العربية... ألم نفقد فلسطين والعراق وحياتنا وهويتنا».
حياته موزّعة بين الصحافة والأدب والسياسة التي قادته إلى السجن مراراً
كانت البداية الفعلية للكتابة في أعقاب هزيمة الـ 67. يومها، التحق الورداني بمعهد الخدمة الاجتماعية، كما التحق شقيقه عبد العظيم بكلية الآداب، ثم عمل الورداني في مجلة «الإذاعة». هناك، تعرّف إلى أصدقاء شقيقه، وكان معظمهم من الكتّاب أمثال خيري شلبي ويحيى الطاهر عبد الله. عندما قرأ خيري شلبي القصة الأولى للورداني، أخذها معه وقدّمها فى برنامج «كتابات جديدة» في الإذاعة المصرية. وهو الأمر الذى مثّل مفاجأة للورداني. بعد أشهر، قرأ قصة جديدة على أصدقائه بعنوان «كرنفال»، فنصحوه بأن يذهب بها إلى الروائي عبد الفتاح الجمل، الذى كان مشرفاً على ملحق جريدة «المساء» الأدبي. هناك، لم يجد الجمل، فترك له القصة التي فوجئ بها منشورة بعد ثلاثة أيام.
«كرنفال» الورداني كانت «نموذجاً لما فعلته الهزيمة بنا. لم تكن اللغة، أو أساليب السرد السابقة قادرة على استيعاب حجم الخديعة المخيفة. كانت القصة عبارة عن مشاهد متتالية يختلط فيها التاريخ القديم بالحديث، والوقائع القديمة بالأحداث المستجدة في فوضى شديدة وغضب عارم، ما جعل الكتابة أشبه بالمشي على جمر ملتهب».
في تلك الفترة، ظهرت مجلة «غاليري 68» التي تبنّت التيارات الجديدة في الكتابة «كان هناك ما يشبه الانفجار القصصي، إلى درجة أنّ الصحف التي كانت تُجري حواراً مع فنانة، كانت تسألها عن رأيها في ظاهرة الكتابة الجديدة!». هذا الأمر دعا وقتها وزير الداخلية شعراوي جمعة إلى إقامة مؤتمر للأدباء الشبان ربما لاحتواء تلك الظاهرة، وأقيم بالفعل المؤتمر عام 1969 في مدينة الزقازيق. «كان الأمر مفاجأة للوزير وللقادة السياسيّين. إذ خرج الأدباء ببيان حاد طالبوا فيه بالإفراج عن المعتقلين السياسيّين، ودعوا إلى إطلاق حرية الصحف والأحزاب».
في تلك السنوات، كان كل شيء يتنفّس السياسة. من هنا، شارك الورداني في العديد من الاعتصامات والإضرابات، وكان أشهرها «تظاهرات الكعكة الحجرية» عام 1972، التي اعتُقل فيها ألف متظاهر من بينهم الورداني. بعد خروجه، اتجه مباشرةً إلى «الجبهة». هو لم يشارك فقط في الحرب، بل تولى نقل جثث الشهداء من المستشفيات إلى مقابر الشهداء العسكرية. وكانت هذه التجربة موضوع روايته الأولى «نوبة رجوع».
روايته المقبلة عن طفل فقير مات أبوه، فعمل بائع ثلج، وعامل مطبعة، و«مكوجياً»، وبائع عصير
بعد الحرب، عمل الورداني اختصاصياً اجتماعياً في إحدى المدارس، وكان يمارس الصحافة بين الحين والآخر. لكن لأسباب سياسية، نُقل عام 1977 إلى «الواحات» في الصحراء الغربية. كانت رحلة نفي حقيقية «كتبتُ خلالها قليلاً. لكن اكتشفت منجماً من القراءات، وخصوصاً أن مكتبات المنطقة كانت قديمة، لم تخرب بعد. وما تضمّنته من أعمال كانت نادرة». هناك بدأ التعرف إلى التاريخ والتراث المصريَّين، فقرأ «النجوم الزاهرة»، وموسوعة سليم حسن عن مصر الفرعونية، وعشرات الكتب التأسيسية التي انعكست لاحقاً على أعماله تماماً، كما انعكست الأبعاد الكافكاوية الفانتازية عليها. هل هو تأثير كافكا؟ يقول: «أحبّ كافكا لكن أحب أيضاً همنغواي وفلوبير. عندما تقرأ السير الذاتية للمعتقلين المصريين، تجد أنها تجاوزت كافكا، بل إن الواقع نفسه تجاوز العالم الكافكاوي بمراحل».
هذا يتبدّى بقوة في مجموعته القصصية الأخيرة «الحفل الصباحي» التى تتضمّن قصصاً عديدة قائمة على المفارقات المأساوية. الأبطال يحاصرهم الخوف في كل مكان. حتى الماء ـــــ سرّ الحياة ـــــ يتحوّل إلى مصدر دائم للخطر حين يغمر شقة موظّف «غلبان» لا يستطيع الانتقال إلى مكان آخر، ويجب عليه مقاومة تسرّب الماء... إلى أن يصبح محاصراً بفكرة وقف التسرب، ويشتدّ الخطر فيغمر الماء شقته الصغيرة.
ربما كان للأمر علاقة باعتقاله الأخير، يضحك الورداني: «بعد المرّة الأولى للاعتقال، أصبحت الفكرة بالنسبة إليّ غير مثيرة للاهتمام، شأني شأن مئات ممّن رافقوني في التجربة». لكن بالنسبة إليه، كان الاعتقال الأخير مختلفاً. يقول: «كنتُ قد ابتعدت عن السياسة بمعناها التنظيمي. ولحسن الحظ، كان معي في التجربة الأخيرة عشرات الشبّان الصغار. في هذه المرة انفتحت عيناي على حجم الغضب المتّسع الذي لا يستند إلى أفكار سياسية محدّدة بقدر ما يستند إلى غضب من الديكتارتور العجوز والقمع المستمر أمنياً».
منذ ستة أشهر، بدأ الورداني العمل على روايته الجديدة «شغل». بطلها طفل فقير مات أبوه في طفولته، فبدأ يعمل في الإجازة، وينتقل من عمل إلى آخر: بائع ثلج، عامل مطبعة، «مكوجي»، بائع في محل عصير قصب. ولمّا شبّ عن الطوق، اشتغل ضارباً على «الرقّ» في فرقة موسيقية وهو لا يعرف شيئاً عن الموسيقى، حتى اشتغل في نهاية المطاف صحافياً. يضحك: «بدأتها لتأريخ طفولتي، لكن منطق العمل هو الذي يسود، قد تأتي مفارقة تماماً لسيرتي الذاتية».


5 تواريخ

1950
الولادة في شبرا ـــــ القاهرة

1968
نُشرت أولى قصصه القصيرة «كرنفال» في ملحق «المساء» الأدبي

1972
تخرج من معهد الخدمة الاجتماعية في القاهرة

1984
صدرت أولى مجموعاته القصصية «السير في الحديقة ليلاً». وبعد عامين، أصدر روايته الأولى «نوبة رجوع»

2009
صدرت مجموعته القصصية «الحفل الصباحي» (المحروسة للنشر)