فضل ضاهر *حسناً فعلت الحكومة باستذكار أولويّات المواطن في بيانها الوزاري. وهو استذكار يعبّر عن الإحساس بالمسؤولية. وقد جاء، كما نزعم، من قبيل تأكيد جوهر وجود النظام ومبرر نشوء السلطة في إطار التعاقد الاجتماعي الطوعي والمنتظم، الذي درجنا على تسميته «ديموقراطية» على سبيل الإصطلاح بعدما ظهرت للعيان، على المستوى العالمي، نماذج عن ممارسات «نيو ديموقراطية» مشوّهة ومتسلّطة، أين منها الانتداب أو الديكتاتوريات.
إن رأس أولويّات المواطن، بل همومه، هو الأمن الذي جاءت العاصفة الأخيرة لتزيد القلق بشأنه، بدليل ما ذهبت إليه أقلام إعلامية مرموقة من حديثٍ عن «حاجة المؤسسات الأمنية إلى من يحفظ أمنها».
في الحلقة الداخلية الأولى، نشهد ضابطين كبيرين، مديراً عاماً وقائد وحدة أساسية تابعة له، يلتقيان على الصعيد الشخصي في الكثير من الصفات المهنية والخلقية بإجماع كل من عرفهما، اللهمّ تلك القلّة ممن آثروا الحكم على كل منهما من موقع الاصطفافات الفئوية التي لا تساعد في معالجة الأمر، بحيث لا يسمح بتكراره في الموقع نفسه أو في أي موقع آخر. في الأصل، يستوي قََسَم قوى الأمن الذي يقتضي الحفاظ عليه كونه منطلق الانتماء الطوعي إلى المؤسسة ونبراس هدي المؤمنين برسالتها النبيلة. «أقسم بربي ووطني وشرفي أنني أطيع رؤسائي في كل ما يتعلق بالخدمة التي أدعى إليها ولا أنتهك حرمة الشرف ولا أستعمل السلطة التي أعطيتها إلا في سبيل توطيد النظام وتنفيذ القانون».
أما الفروع فتذهب باتجاهات مغايرة لتلك المرسومة بالقَسَم أعلاه. بعض تفاصيلها تدرَّج في الانحراف بفعل ممارسات خاطئة، مكرّساً أمراً واقعاً وأعرافاً غير سليمة لطالما شكلت مصدر شكوى السواد الأعظم من منسوبي قوى الأمن المخلصين. والبعض الآخر تكرّس وللأسف في نصوص لطالما أشرنا إليها، سواء في الدراسات، التي دأبنا على وضعها حول تفعيل وزارة الداخلية وتطويرها، أو حول تحديث قوى الأمن وتعزيز قدراتها.
الفصل السابع من كتاب «صفحات من تاريخ قوى الأمن الداخلي» (2007) يشير إلى «غياب الفكر التطويري والمنتظم وفقاً لمنهجية واضحة موضوعة لخدمة مستلزمات الاستراتيجية الأمنية المتكاملة والمندرجة لزوماً في إطار الاستراتيجية الوطنية الشاملة للتنمية والتطوير في سائر القطاعات وعلى جميع الصعد والمستويات. وحسبنا لتأكيد ذلك استعراض جداول أعمال مجالس قيادة قوى الأمن المتعاقبة، ودراسة المواضيع التي تضمّنتها هذه الجداول (...) لذلك فقد وجدنا هذه المجالس المتعاقبة أشبه «بمجلس محاصصة طوائفي» يدفع بأعضائه دفعاً إلى بناء مواقفهم وتحديدها من خلال معايير خدمة الطائفة التي يمثلونها، ولو على حساب خدمة المؤسسة وخدمة المصلحة العامة».
في المشهد الموازي، يبرز وزير شاب اختاره رئيس الجمهورية ونجح في تدعيم هذا الاختيار بثقة عارمة من المواطنين الذين باتوا ينظرون إلى المطبّات بوجه «الحالة النموذجية المستجدة» التي جسّدها الوزير زياد بارود بعين الريبة، مخافة أن يكون فشله، رغم أدائه المتميّز، مؤشراً إلى استحالة قيام أي نهج إصلاحي هادف إلى تطوير الإدارة العامة وتحديثها. ميادينه ثماني عشرة إدارة عامة وهيئة وجهاز، بينها اثنتان أمنيّتان تكاد قوانينهما تكون واحدة رغم تميز قوى الأمن الداخلي بالحضور المباشر الأكثر التصاقاً وتأثيراً في مشاغل الناس ومشاكلهم.
هو رجل قانون يحرص على إنفاذ العدالة من موقعه السياسي، وهي مؤسسة أمنية مختلطة شبه عسكرية تحرص على إنفاذ العدالة بموجب صلاحيات محددة بالقانون. إن مأزم العلاقة بين السياسي والعسكري ليس مستجداً أو مقتصراًً على بلدنا، وقد تُرجم ذلك في القانون 17/90 الذي حافظ على نزوع ضمني. وكان تقديم العسكري على السياسي ملحوظاً في المرسوم الاشتراعي 54/67. ويتأكد ذلك من خلال أحكام ومواد عديدة، أبرزها المادة 22 من قانون 17/90 التي جاء فيها:
«1 ـــــ إن القرارات التي يتخذها مجلس القيادة بالإجماع أو بأكثرية ثمانية أصوات على الأقل (...) تعتبر نافذة على الفور، وترسل نسخة عنها إلى وزير الداخلية على سبيل الاطّلاع.
2 ـــــ إن القرارات التي يتخذها المجلس بالإجماع (...) تعتبر نافذة على الفور وترسل نسخة عنها إلى وزير الداخلية على سبيل الاطّلاع. أما إذا اتخذت هذه القرارات بأكثرية ثمانية أصوات وما فوق، فترسل إلى وزير الداخلية الذي يعود له:
أ ‌ـــــ إما تصديقها في مهلة أسبوع من تاريخ إيداعه إياها وتصبح نافذة على الفور.
ب ـــــ أو عدم تصديقها وعدم ردّها إلى المجلس في المهلة المذكورة فتصبح نافذة فور انتهاء هذه المهلة.
ج ـــــ أو عدم تصديقها وردّها في مهلة أسبوع بقرار معلّل إلى المجلس لإعادة النظر فيها، فيدرسها المجلس من جديد في مهلة أسبوع من تاريخ ردّها إليه ويرسل القرارات التي يتخذها بنتيجة الدراسة الثانية إلى وزير الداخلية، وللوزير إما أن يصدقها في مهلة أسبوع من تاريخ إيداعه إياها أو أن يرفعها إلى مجلس الوزراء الذي يتخذ القرار النهائي بشأنها.»
خلاصة القول إنه لا بد من تهدئة النفوس والاطمئنان إلى أن صون هذه المؤسسة العريقة هو أمر محتوم، لا مجال البتّة للمزايدات في استئثار واجب تحقيقه. واعتقادنا أن معالجة الأخطار التي برزت إلى السطح وجرى تعميمها بطريقة غير مقصودة، لكن مسيئة، لا يجوز تسطيحها باعتبارها متعلقة بهذا الشخص أو ذاك، ولا بد من معالجة المآزم البنيوية والمتراكمة بحثاً عن الأسباب لاستئصالها من جذورها.

* الأمين العام المساعد الأسبق لمجلس
وزراء الداخلية العرب، والرئيس الأسبق للأمانة الدائمة
لمجلس الأمن الداخلي المركزي في وزارة الداخلية اللبنانية.