يدور جدل تاريخي قديم بين المسلمين واليهود حول ملكية مرقد النبي ذو الكفل الواقع في مدينة الحلّة جنوب بغداد. بالنسبة إلى اليهود إنه قبر النبي حزقيال، وبالنسبة إلى المسلمين، فالمرقد مذكور في القرآن الكريم، واتخذه الإمام عليّ مقراً له. لحسم الخلاف، أجرت الدائرة العامة للآثار في العراق حفريات على الموقع
العراق ــ كريم القاسمي
على طريقة الاستخبارات العربية في التحقيق، كانت السياط ترتفع ثم تهوي على جسد الشابّ الذي يعمل في مرقد النبي الكفل، ومع كل سوط كان الجلاد يردّد: «اعترف !»، لم يكن الشاب يعرف شيئاً ليعترف به، ولم يكن يعرف بماذا يجب أن يعترف. كل ما يدركه أن سيارة فخمة حضرت إلى المرقد قبل يومين من اعتقاله، وكانت تقل ثلاثة أشخاص. ترجّلوا بملابسهم الأنيقة، وقدّموا أنفسهم باعتبارهم من موظفي ديوان رئاسة الجمهورية (إنه العراق تحت حكم صدام حسين)، وأكدوا للحارس الشاب أنهم كلّفوا بمهمة تصوير آثار ذو الكفل، لأن الرئيس صدام سيطلق برنامجاً لإعمارها. فما كان من الشاب إلّا أن رحب بالموظفين، وأدّى لهم فروض الضيافة، ويتذكّر ذاك الشاب تفاصيل ما جرى بوضوح قبل أكثر من عشر سنوات. إذ اتضح أن هؤلاء الزوّار هم جواسيس يعملون لحساب الاستخبارات الإسرائيلية، وقدموا إلى المكان لتقديم صور عن الموقع. زيارة أدت به إلى سجون الأمانة العامة، حيث عرف معنى التعذيب قبل أن يطلق سراحه. هذه الحادثة لم تكن سوى حلقة في خلاف ديني اتخذ طابعاً سياسياً حول عائدية مرقد النبي ذو الكفل، أو حزقيال على اختلاف التسمية بين الأديان السماوية، التي تظهر جميعها الاحترام للمرقد وتقدّسه. لكنّ صراعاً نشب بين المسلمين واليهود خلال فترات مختلفة بسبب رغبة اليهود في الاستيلاء على المكان، باعتباره خاصاً بهم وحدهم دون باقي الأديان.
وكانت دائرة الآثار والتراث في العراق قد قررت قبل ثلاث سنوات حسم الخلاف القائم، والبدء بحفريات أثرية على الموقع تبرز استعماله تاريخياً، وتؤكّد تلك النظريات أو تنفيها. وأتت نتيجة الحفريات بأنّ مسجد النخيلة التاريخي مبنيّ فعلاً على الموقع. ويبدو أن الاهتمام بالموقع لم يعد يتوقف على السلطات العراقية فحسب، فقد قررت وزارة الخارجية الألمانية، عبر مركز للدراسات الأثرية في الشرق الأوسط، ترميم مرقد النبي ذو الكفل وتأهيله باعتباره مركزاً «يجمع داخل جدرانه الديانات السماوية الثلاث».
تكاد الروايات الدينية تتفق على أن صاحب القبر، النبي ذو الكفل، هو نفسه النبي حزقيال، الذي وقع أسيراً في قبضة جيوش الملك البابلي نبوخذ نصر عام 589 قبل الميلاد، إبّان حملته الشهيرة على القدس، التي انتهت بالسبي البابلي، وجيء بحزقيال أسيراً، وقضى بقية عمره في العراق ومات ودُفن فيه. وهذا ما يعطي للمرقد رمزية دينية بالنسبة إلى اليهود، والمسيحية، باعتبارها تعترف بالعهد القديم. أما بالنسبة إلى الديانة الإسلامية، فالكفل ذُكر في القرآن الكريم، مما جعله مقدساً لدى المسلمين، وما زاد من قدسيته اتخاذه مقاماً لرابع خلفاء العصر الإسلامي الراشدي، الإمام علي، الذي استقرّ فيه فترةً من الزمن، واتّخذه مسجداً خلال حملاته على الخوارج. وما أعطى للمرقد أهمية كبرى هو منارته، التي تعود إلى عام 1316 ميلادياً، والتي ما زالت قائمة حتّى الآن، وتشتهر بالمقرنصات التي تعدّ من أبرز العناصر الزخرفية في الفترات الإسلامية القديمة.
تشير المصادر التاريخية إلى أن العصر العثماني شهد محاولات من اليهود للاستيلاء على المكان، وإعطائه صفة يهودية بدلاً من المشاركة بين الديانات الثلاث، ونتيجة لذلك رفع بعض أهالي الكفل شكوى إلى السلطان العثماني، فأرسل الأخير لجنة للتأكد ميدانياً من وجود المنارة، التي تثبت أن المكان مقدّس لدى المسلمين أيضاً. هذه الحادثة استفزّت المسلمين، فحدثت بعض المواجهات بين الطرفين، واستمر الخلاف إلى منتصف الخمسينات، إذ أنكر اليهود وجود المسجد، الذي يطلق عليه اسم «مسجد النخيلة»، ولم يملك المسلمون حينها أدلّة حسية على قدسية المكان سوى المنارة، التي ما كانت لتُبنى لولا وجود مسجد، إضافةً إلى ما ورد في كتب التاريخ.
هذا ما تحاول التنقيبات الأثرية، التي بدأت منذ عام 2007، حلّه اليوم، وخاصةً بعدما استظهرت أساس المسجد بوضوح. تقول مديرة آثار بابل، مريم عمران، إن «خطة التنقيبات كانت تتضمن إبراز المسجد، لذا فأعمال التنقيب تابعت جدار المنارة من جهتَي الشمال والجنوب لإبراز جدران المسجد كلّها».
فزائر المرقد يشعر بأنه أمام مجمع لأبنية أثرية عديدة: فهناك المرقد الذي تعلوه القبة المخروطية، التي هي الأشهر في العراق وجواره، وهناك الرواق، الذي يقود إلى قبور أصحاب النبي الخمسة، وإلى مقام الخضر وإلى القبر الذي يُعتقد أنه للنبي ذو الكفل وأصحابه. في الصحن الخارجي للمرقد منصّة تعلو الأرض بمتر واحد، كان اليهود العراقيّون يؤدّون فيها طقوسهم الدينية، قبل هجرتهم من العراق منتصف القرن الماضي.
أمّا منارة المسجد، التي تقع على بعد نحو عشرين متراً من المرقد، فتتكوّن من خمسة أجزاء تزيّنها زخارف نباتية وهندسية، وعدة كتابات عربية، وهي تحتاج إلى صيانة بطريقة ضرورية، إذ تبدو مائلة بسبب الضرر على أساساتها. وحول المرقد تنتشر الخانات التاريخية، التي أُهملت إهمالاً واسعاً في السابق.
وتشرح مديرة آثار بابل حجم الإهمال: «كان المكان كله مهملاً، وباستثناء المرقد والمنارة فقد تحوّلت الخانات الأثرية إلى مكان للنفايات، وبعضها كان يُستخدم لتربية الحيوانات، فضلاً عن تأثّر كل الموقع بالعوامل الطبيعية، من أمطار ومياه جوفية بسبب عدم صيانته».