الميناء ــ ضحى شمسبوجه متجهّم قاتم زاد الاسمرار من قتامته، يصل الصيداوي إلى الرصيف البحري. بدون مقدمات، نطلب روايته، فيجلس على حافة السور الباطوني الواطئ ويقول: «السابعة مساء الخميس اتصل بنا الجيش، وطلب منا أن نوافيه للمساعدة في إنقاذ السفينة». لكن السفينة غرقت عند الرابعة من بعد الظهر؟ يجيب: «نداء الاستغاثة وصل عند الرابعة بعد الظهر، فعاود الجيش الاتصال بهم بأقل من ربع ساعة، لم يردّ أحد وكانت قد غرقت. لزم الجيش نحو ثلاثة أرباع الساعة ليصل إلى موقع الغرق. ثم طلبت إلينا غرفة العمليات البحرية المساعدة كفريق إنقاذ بحري. نحن عادة كثر، وفريقي «وحوش بالبحرية»، لكن كان هناك 5 أشخاص منّا فقط، وانضم إلينا عنصران من بحرية الجيش، وطلعنا. وصلنا إلى موقع الغرق نحو التاسعة ليلاً، وكان البحر كبيراً جداً، والنوّ شديداً والأمواج مثل البنايات. كانت فعلاً مشقة حتى وصلنا».
بضعة بحارة باكستانيين ناجين ارتدوا «جوكينغ سوت» اشتُريت على عجل
ننظر إلى الزورق الأصفر «لايف غارد» الذي استخدموه، ونسأله إن كان مؤهلاً للمشاركة في عملية إنقاذ كهذه، فيجيب: «لو كان الوضع طبيعي لا. لكن كانت هناك أرواح في خطر، ووصلنا فوق الباخرة». وكيف عرفوا أنهم فوقها؟ يقول: «رائحة الفيول كانت مميتة، ومعنا جهاز استدلال، «جي بي أس»، يحدد الموقع (عبر الأقمار الصناعية). وجدنا هناك قوات اليونفيل، وباخرتين لبنانيتين تساعدان في الإنقاذ. الرؤية كانت مستحيلة، إلا لنحو أربعين أو خمسين متراً». نسأله أن يصف لنا المشهد، فيقول بعد تنهيدة: «كانت العالم مفرطعة (مشتتة) وكنا نحاول تفادي اصطدام بعضنا ببعض. وكانت النوّة (الموج العالي) عم تكبّ الناس كب. وكل من يقع في البحر يعود فيطلع. كانت حوقة كبيرة (جمهرة) والبروجكتورات مسلطة في كل اتجاه والمطر مثل الشتي». نسأله إن كانت الأنوار مسلّطة نحو المياه فيردّ: «من غير الممكن أن نرى شيئاً في المياه، لأن الموج حين كان يطلع ثم يخبط، كان يطلع فواراً». وطوافات الهليكوبتر؟ يجيب: «كانت هناك اثنتان تحوّمان للاستكشاف». يضيف وهو ينفث سيجارته: «فتشنا على ناس، عائمة أو بحاجة للانتشال. لكننا لم نرَ شيئاً، فالموج كان يرفعنا إلى أعلى ثم يهبط فنخال أننا سنغرق. وبما أن التيار يذهب غرباً، توجهنا في اتجاهه لأنه ربما كان قد جرف ناجين. ابتعدنا عن موقع الغرق نحو ميلين، فوصلنا إلى قوات اليونيفيل. بدأوا «يضوولي ويطفولي»، ثم نادونا بالميكروفون. اقتربنا فتمنّوا علينا الرجوع لأن الوضع كان خطراً علينا لكون مركبنا صغيراً. ثم تكلم العناصر مع رؤسائهم في الجيش، قالوا لنا ارجعوا فرجعنا».
أخيراً، نتوصل إلى مكان حرب: فندق الكواليتي إن. نتوجه بسرعة إلى هناك «لأنه سيغادر بعد ساعتين»، كما يقول المصدر. في بهو الفندق بضعة عمال أجانب، بعضهم لُفّت يداه بالشاش الطبي. وجوه سمراء كالحة ومرهَقة، وقد ارتدوا «جوكينغ سوت» اشتُريت لهم على عجل. نسأل عامل الاستقبال عن حرب، فيسمعنا موظف الأمن الذي يبلغنا أن التكلم إلى البحارة ممنوع. بحّار منهم يحاول إفهام موظفة الاستقبال شيئاً ما. نبادره: السلام عليكم، لكوننا اعتقدنا أنه باكستاني. يجيب وقد اتسعت ابتسامته: «وعليكم السلام». نستطرد بسؤال بالإنكليزية، فيلتفت مستنجداً بمن يعرف الإنكليزية. يحاول الأمن منعنا، فنطلب مدير الفندق، لكن شخصاً آخر يُقبل علينا بتهذيب فائق، مقدماً نفسه: «ألبير داغر، صاحب السفينة». يقول لنا إنه هو من منع التحدث إلى البحارة، لأن عائلات البحارة الغرقى لا يجب أن تتبلغ من وسائل الإعلام بما حصل. نقول له: «لكن حرب قد نجا!»، فيجيب: «بدي أعتذر منكم معليش». نتفهم أن أي كلام يصدر قد تفسره شركات التأمين على هواها.