بلدية بيروت أداة في يد السلطة• سوء الإدارة يتجلى في التنظيم المدني
• انسحبت من انتخابات 2004 كي لا أخوض معركة دونكيشوتية

أجرتها مهى زراقط
مقابلة عن البلديات؟ يكرّر عاصم سلام عبر الهاتف ليتأكد أنه لم يسمع خطأ. «أكيد لديّ ما أقوله في هذا المجال»، يقول محدداً الموعد في منزله التراثي في زقاق البلاط. منزل لم يعد يحب الخروج منه ورؤية «البشاعة» التي حلّت على بيروت بسبب «سوء إدارتها» كما سيكرّر

ترشحت إلى انتخابات بلدية بيروت عام 2004، ما الذي حمّسك لخوض تلك التجربة يومها؟
ــــ فكرة ترشيحي إلى البلديات عام 2004 ليست إلا امتداداً لترشيحي لانتخابات نقابة المهندسين عام 1995. كان هدفي جعل النقابة مؤسسة، ليس للتجاذبات السياسية دور فعال فيها، على الرغم أن التحالف مع بعض الفئات السياسية مفروض للنجاح.
لكن الخلفية هي المرجعية المهنية والاستقلال بالقرار وعدم إدخال السياسة إلى النقابة. يومها واجهت رئيس الوزارء (رفيق الحريري) الذي كان راغباً في السيطرة على النقابة وكسبت. بلدية بيروت كانت صورة أخرى لهذه المعركة. كان هدفي وقف تحكم القوى السياسية ببلدية بيروت قدر الإمكان، وإبراز وجه حضاري ومتقدّم للعاصمة وتفعيل دورها لتقوم بمسؤولياتها على مستوى التخطيط المدني وتوفير التجهيزات الأساسية. مع الأسف لم
أنجح.

لماذا لم تنجح؟
ــــ هناك أسباب عدة لذلك. أولاً لأن الانتخابات البلدية تختلف عن انتخابات النقابة. يمكنني التفاعل مع الجسم الهندسي النقابي ومحاورته بمنطق وخطاب ولغة مختلفة عن الخطاب الواجب اعتماده مع المجتمع البيروتي. ما يتحكم بالأخير ليس مصداقية الشخص فقط، بل المطالب الاجتماعية والتسهيلات المادية أيضاً، التي لا قدرة لي عليها. من جهة ثانية، مركزية القرار وقتها كانت في مجلس الوزارء الذي دخل على الخط وفرض مجلساً بلدياً، تحت حجّة أنه في حال عدم تدخّله في هذه العملية، قد تسقط فكرة المناصفة في توزيع المقاعد بين المسلمين والمسيحيين لأن أغلبية الأصوات هي للناخبين السنّة. أي إننا رجعنا بطريقة ملتوية إلى تركيز الطائفية في انتخابات المجلس البلدي بخلاف ما ينصّ عليه القانون. علماً بأن الحجة الحقيقية هي عدم الرغبة في وصول مجلس بلدي يتمتع
باستقلالية.

قلت إن لا مفرّ من التحالف مع بعض السياسيين في الانتخابات النقابية، فماذا عن الانتخابات البلدية؟
ــــ الأمر مماثل، وقد حاولت تأليف لائحة من خلال التحالف مع قوى سياسية داعمة لاتجاهي، كانت وقتها في خط المعارضة للرئيس رفيق الحريري.
النقاش الطويل حصل مع المسيحيين الذين كانت لديهم مجموعة من الهواجس. هم مثلاً كانوا خائفين من عدم وصول حصتهم (العددية) إلى المجلس، ومعترضين على قانون الانتخاب. كما كانوا يرغبون في وصول شخص معارض للحريري، لكنهم لا يريدونه مقرّباً من سوريا. بالنسبة لي، قلت لهم يومها إني لا أقدر وحدي على إزاحة السوريين من لبنان، لكنني أكدت لهم أنه لن يكون للسوريين الكلمة الأخيرة. بعد حصولي على موقف إجماعي منهم بدعمي، عدت إلى الفئات الإسلامية التي كانت قد وعدت بدعمي، فوجدت أن بعض الأطراف السنّة قد عدلت عن موقفها، أما الأحزاب الشيعية فقد اختارت عدم الدخول في معمعة بين السنّة. بناءً عليه، لم يعد بإمكاني دخول معركة انتخابية متكلاً على مصداقيتي وحدها وإلا صارت عملية دونكيشوتية من دون معنى. أنا أواجه عندما أعرف أني أملك مستندات قوية لكن ليس فقط من أجل المواجهة، علماً بأني بقيت معارضاً للسياسة
المتبعة.

هل فكرت كيف سيكون العمل في المجلس البلدي إذا وصلت إليه؟ بالتأكيد لم تكن ستأتي بلائحة كاملة وكنت ستواجه معارضة في البلدية.
ــــ بصراحة لم أكن خائفاً من إمكانية العمل في المجلس البلدي، وخصوصاً أن المشكلة نفسها واجهتني في نقابة المهندسين. هناك أمور تواجهينها بقوة القناعة وباتخاذ قرارات صحيحة تقنع المواطنين.

ما هي هذه القرارات؟ إلامَ تفتقر بلدية بيروت اليوم؟
ــــ أهم شيء أنها بلدية لا تقرّر، ولا أفق واسعاً لديها يسمح بمعالجة الهموم المطروحة على المدينة.
إنها بلدية معيّنة والانتخابات التي أتت بها تمثيلية. وهذا واقع يعود عقوداً إلى الوراء بخلاف ما كانت عليه الحال قبل الاستقلال، وخصوصاً أيام العثمانيين.

كيف؟ هل نشرح أكثر؟
ــــ في عهد العثمانيين كانت للبلدية سلطة شاملة، لأنها منتخبة، ولأن بيروت كانت تمثل كلّ لبنان تقريباً فأعطيت لها سلطة واسعة جداً. أيام الفرنسيين، اعتُمد مبدأ الانتخاب أيضاً وحظي المجلس بصلاحيات واسعة، لكن مع استحداث منصب «محافظ» يشغله موظف فرنسي، ويقوم بدور همزة الوصل بين بلدية بيروت والمندوب السامي. استُحدث هذا المنصب يومها لتقييد سلطة المجلس البلدي ولتبقى المرجعية للمندوب السامي. أعتقد أن الأمر كان مرتبطاً بالقرار السياسي، إذ لم يكن معروفاً كيف سينشأ لبنان في ظلّ انقسام أهله بين «وحدويين» يرفضون الانفصال، و«لبنانيين» يطالبون بهوية منفصلة. وباللغة الطائفية هو انقسام بين مسلمين ومسيحيين. ولأن بيروت، بتركيبتها الطائفية، مكوّنة من أغلبية سنّية ممثلة بقوة في المجلس البلدي، قيّدها الفرنسيون بإنشاء منصب المحافظ كي لا يكون تصرفه مطلقاً. أضيف فكرة أخرى هي الرغبة في جعل بيروت مدينة حرة. أي في حال إنشاء لبنان، سوريا، تبقى بيروت مدينة غير مرتبطة سياسياً بالكيانات التي ستنشأ وتعطى نوعاً من الاستقلال الذاتي. لكن هذه العملية لم تتطوّر بالشكل الذي فكروا فيه. ومع انتهاء الانتداب الفرنسي، بقي منصب المحافظ موجوداً وهو الذي يتمتع بالسلطة التنفيذية. ما تغيّر فقط أنه صار لبنانياً من الطائفة الأرثوذكسية. ولهذ الخيار سببه أيضاً، كما قلنا سابقاً، لوائح الشطب في بيروت تفيد بأن الطائفة السنية هي الأكثر اقتراعاً، فإذا لم يحصل تقييد ما، تصبح هي المسيطرة كلياً على المجلس لذلك اختير المحافظ مسيحياً.

كيف ترى الانعكاس السلبي لهذا الخيار على دور البلدية؟
ــــ هذا الخيار سبّب شللاً في دور المجلس البلدي، وانعكس على المهمات التي كان يقوم بها. مثلاً، كانت للمجلس البلدي سلطة تقريرية تقريباً في ما يتعلق بإنشاء المدارس، النقل المشترك، الكهرباء، المجارير، إلخ. مع الوقت، وبعد الاستقلال وقيام حكومة لبنانية، حصل تشابك في الصلاحيات وراحت السلطة من يد البلدية إلى السلطة المركزية التي صارت خائفة من سلطة البلدية أيضاً، فقيّدتها بدورها وأفقدتها كلّ دورها، وخصوصاً في ما يتعلق بالتنظيم المدني.

كانت لك مواقف نقدية حادة من التنظيم المدني والمخطط التوجيهي الذي لم يتغير منذ عام 1954.
ــــ نعم، ولهذا المخطط قصة عمرها من عمر توسّع بيروت وتحوّلها من مدينة مهمّشة قبل الاستقلال إلى مركز استقطاب، وخصوصاً بعد نكبة فلسطين عام 1948. تجاه هذا النمو السريع، وخصوصاً في الحمرا، الوسط التجاري وامتداداتهما، صدر مخطط توجيهي لبيروت عام 1954 حُدّد فيه ما يسمى بالكثافة وطريقة استعمال الأرض وفق منطق سخيف اعتُبر فيه الوسط مركزاً أساسياً يجب رفع عامل الاستثمار فيه (أي حجم المساحة التي يمكن البناء عليها) بطريقة اعتباطية من دون دراسة معمقة لقدرة البنية التحتية على التحمّل. النتيجة كانت كثافة مرتفعة جداً قائمة على نسيج مدني من القرون الوسطى، من دون قيود تنظيمية على العقارات وشكلها. المفارقة أن بلدية بيروت، أيام العثمانيين، كانت تملك أفقاً أوسع لطريقة البناء ويتجلى ذلك في طرق المعرض، اللنبي وفوش بحيث أنشئت الأبنية والطرق إنشاءً منسجماً.

ألم يكن يمكن رفض هذا المخطط أو تغييره؟
ــــ شخصياً منذ عام 1957 بدأت حملتي على هذا المخطط، وكانت لي مداخلات قوية جداً عن الإساءة التي يسبّبها والتي أدت إلى هدم الكثير من التراث المعماري الذي يطالب به الناس اليوم. لكننا منذ 55 عاماً لم نلحظ أي تجاوب، وبقي هذا النظام حتى اليوم. من ستواجهين؟ إذا كان عامل الاستثمار يؤدي رأساً إلى ثمن الأرض، فهل يمكنك خفضه من دون مواجهة أصحاب العقارات. المنطق المتحكم باللبنانيين هو أن كلّ شيء لك، ولا شيء للدولة. أما أساس التنظيم المدني فهو أن العقار لك، لكن أنا كدولة من يحدّد ماذا يجب أن تفعلي بهذا العقار. يعني يمكن الدولة أن تعدّ مخططاً توجيهياً تحدّد فيه الوجهة التي يمكن استعمال الأرض وفقها خلال السنوات العشر المقبلة، لكن الأمور قد تتغيّر، ما قد يفرض تجديد المخططات. وينص القانون على أنه يحق للدولة أن تعيد النظر بالمخطط إذا رأت أنه يؤدي إلى سلبيات عليها تعديله وفق المصلحة الوطنية، وهي تعدّله من دون تعويض المواطنين. مثلاً، إذا أرادوا القيام بمخطط للنبطية، يجب أن يتوافر بين أيادي المخططين تصور لمستقبل النبطية ودورها: هل سيكون زراعياً؟ صناعياً؟ تجارياً؟ ما يحصل حالياً أن المخططات التوجيهية تقوم على دراسات فردية للواقع الحالي. عندها يمكن التنظيم المدني أن يجبر المواطنين على العمل وفق هذه النظرة الإنمائية. برأيي، أكبر مثال بصري على سوء إدارة لبنان هو التنظيم المدني.

ما هو الدور الذي يمكن أن تقوم به البلديات لتحسين هذا الواقع؟
ــــ في الحقيقة أنا حكيت عن الأمور ببساطة، لكنها معقدة أكثر. مثلاً، يفترض أن يكون رئيس البلدية هو من يعطي الرخصة. لكن معظم البلديات تفتقر إلى أجهزة فنية. أما التنظيم المدني فلديه شروط عامة للبناء، وأي رخصة تلبي الشروط لا يمكن رفضها. صارت المسألة شكلية. أما في الخارج، فكلّ رخصة تطلب من البلدية تعلّقها الأخيرة على كل الأبنية المجاورة لكي يطّلع عليها المواطنون ويبدوا رأيهم فيها، وتكون هناك لجان تستمع إلى الآراء وتقرّر في النهاية. أي هناك عملية إشراك المجتمع المدني في القرار وهذه ثقافة غائبة عندنا.

كيف ترى مستقبل بيروت إذاً؟
بيروت خلص انتهت. لا أمل أبداً بعد في تصحيح المساوئ. هناك تمدّد عشوائي منظم وتجهيزات لا تستوعب كلّ هذه الكثافة. شخص مثلي وبعمري، رأى كيف كانت بيروت جميلة ومريحة للعيش، وكيف تتحول إلى الأسوأ، لم أعد أحبّ الخروج من منزلي الذي ترتفع في وجهه اليوم بناية من 10 أو 12 طبقة. لكني بالمناسبة أشير إلى قرار صدر عن الحكومة السابقة ينص على أن أي مشروع تنظيمي يجب أن يكون مرتبطاً بالمخطط التوجيهي العام للأراضي اللبنانية. هذه خطوة إلى الأمام. لا أعتقد أنها ستصلح الوضع في بيروت، لكنها على الأقل ستحمي الأراضي التي لم تستهلك بعد في لبنان. وبرأيي إذا أرادت الحكومة القيام بخطوة جيدة يجب أن تنشئ وزارة مهمتها التخطيط والتجهيز وترجمة ذلك عبر التنظم المدني.


لا يخفي عاصم سلام خوفه على الجميزة وتراثها المعماري، على الرغم من حصول إجماع نادر من المعنيين للمحافظة عليها. إجماع لم يترجم بأي قرار رسمي يحميها، سواء بإعادة النظر بالمخطط التوجيهي أو وضعها تحت الدرس. وما يحميها اليوم، قانون الإيجارات الذي يمنع طرد المستأجرين من دون تعويض