عيد الميلاد ذاكرة جماعيّة، وبالرغم من ذلك يخبّئ في كيسه ومدفأته للكثيرين ذاكرة خاصة، وسواء أكانت مؤلمة أم مضحكة، تبقى هدية تتكرر كل عام
جونية ــ ريتا بولس شهوان
يذكّرني عيد الميلاد بنائب عن منطقتي، وبجمعيته التي تقدّم الأحذية عيديةَ ميلاد لليتامى من أولاد المنطقة. في الحادي والعشرين من هذا الشهر عام 1995، كنت بين جمهور من أطفال يتامى، جلسوا في قاعة مسرح «لا سيتيه» في جونية. كنت خجلة بتلك الكنزة الصوف التي أرتديها، وبحذاء تمرست في السير فيه طويلاً، متفادية لمس الأرض عبر ذاك «الثقب» الذي كان لا بد من حصوله على جانبَي الفردتين لكثرة الاستعمال. عندما وصلت إلى المسرح، وكانت خالتي تمسك بيدي، رأيت أطفالاً بعمري وأصغر مني، استجاب أهلهم لدعوة نائب المنطقة حينذاك، الإقطاعي المسيطر على جزء كبير منها. فهنا، في منطقة جونية، لا أحد يُغضب «الزعيم»، الذي قد يحتاج إليه في أي وقت، لوساطة من أجل عمل أو دخول مستشفى أو مدرسة، أو حتى من أجل فكّ أسر سجين، أو في مثل حالي، قد تكون والدته طامحة إلى من يتوسط لها من أجل قسطي في المدرسة الباهظة الأكلاف التي كنت أدرس فيها. هكذا، كنت هناك. كان الأطفال منتشرين في كل مكان من القاعة. ثم بدأت المسرحية. وجلس الكل يشاهدها. لا أذكر اليوم ما كانت المسرحية أو أحداثها أو حتى أبطالها. ربما لأنني محوتها إرادياً من رأسي. ذاك الرأس الذي لم يكن يريد القبول بأنّ والدي مات. كل ما كان يهمّ ذلك الجمهور من اليتامى، المسوق بعضهم، مثلي عكس رغبته، هو النهاية السعيدة، لا للمسرحية بل له، والمتمثل في «العيدية»: زوج أحذية لم يختره أحد منهم حتى، تبرّع بثمنه طلاب مدرسة راهبات القلبين الأقدسين كفرحباب، أي مدرستي، لجمعية «ريّس» يقدّم الأحذية المشتراة من مال غيره، وباسمهم إلى أولادهم. مال التلامذة تجمعه جمعية تحمل اسم النائب، لتؤكد استمرارية الرجل في خلق مفهوم جديد لفاعل الخير الذي سيترشح للانتخابات، مستثمراً كل زوج أحذية «قدمه» ليتيم، في تذكير العائلة بخيراته عليهم. وصل الحذاء إليّ: اليتيمة والتلميذة. طلب منا «زلمة» النائب الصعود إلى المسرح لتسلمه. بعد تجربته على المسرح. تحولنا في تلك اللحظات إلى زمرة يتامى نشارك ضمن مسرحية أخرى من إخراج «زلمة» الزعيم، عنوانها «اليتامى والأحذية». في الطريق من مقعدي إلى المسرح، كنت أصلّي بخشوع لئلا يكون أحد زملائي في المدرسة، صدفة بين الجمهور. الأسئلة تنهال على روح ابنة السنوات السبع التي هي أنا، كانهمار الأمطار الغزيرة خارج مبنى مسرح «لاسيتيه». ماذا لو اكتشف زملائي في الصف أن تلك الألف ليرة ذهبت إلى حذاء زميلتهم، صاحبة العلامات الأعلى في الصف، التي تجلس إلى جانبهم؟ غداً سأكون مَسخَرة عيد

كل ما كان يهمّ اليتامى النهاية السعيدة، ليس للمسرحية بل «العيدية»
الميلاد! «يا حرام هيدي ميّت بيّا!»، هذا كل ما أخافني طوال سنوات الدراسة. لم أعرف ما أحرجني أكثر، الثقب في حذائي القديم؟ الحذاء الجديد الأبيض من اختيار زملائي، الذي لا يصلح لكل يوم، بل للمناسبات الخاصة كالشعنينة؟ أم تجهّم الراهبة عند تمنّعي، ذاك اليوم عند حضور الجمعية إلى مدرستي، عن التبرع بألف ليرة سرقتها من محفظة أمي لتلبية شهوة أكل قطعة شوكولا؟
أضواء المسرح مسلطة عليّ، وعلى علبة الهدية. الأولاد يطلبون مني الإسراع في تسلمها. استفدت من تلك الدقائق على الخشبة لأتفحص الحاضرين. تأكدت من عدم وجود صديقتي الحميمة بينهم، زميلي الذي يعجبني، وتلك التي تنافسني دائماً في صف اللغة العربية. وتنفست الصعداء: «الحمد لله»، لا أحد منهم هنا، عدا الراهبة المسؤولة في مدرستي. رأيتها! كانت في الصف الأول... تبكي.
دمعة الشفقة؟ لا أعرف لمَ كانت تبكي. ربما لأنها تذكرت «جلدة» خيزران زيّنت رجلي بها العام الماضي، بعد اكتشافها تقصيراً في فروضي، من دون سؤالي عن أسباب التأخر في تقديم تلك الفروض الذي كان ببساطة بسبب قتل والدي.
يذكّرني عيد الميلاد بشيء انكسر في قلبي في يوم ما. كان الانكسار الأول لكرامتي... والأخير.