كنيسة المهد لم تشهد أيّ عملية ترميم منذ أكثر من مئة سنة. مياه الأمطار تتسرّب إلى داخل المبنى المتداعي الجدران والمهدّد سقفه بالانهيار، فيما تعوق خلافات الطوائف كل عملية ترميم
بيت لحم ـ أسامة العيسة
نقلت شاشات التلفزة العالمية مساء أمس قدّاس الميلاد في منتصف الليل من كنيسة المهد في مدينة بيت لحم، التي يُعتقد أنها شهدت معجزة ميلاد السيد المسيح. ملايين المشاهدين يتابعون هذا القداس سنوياً، وهم لا يعلمون أن هذه الكنيسة تحتاج اليوم إلى معجزة من نوع آخر: فهي مهدّدة بالانهيار. سقف الكنيسة المصنوع من خشب أرز لبنان، الذي يعود إلى القرن الخامس ميلادي، يدلف ماءً كلّما أمطرت السماء، وتهدّد سيول الأمطار الجداريات الفسيفسائية البيزنطية والصليبية، التي لا تقدّر بثمن. أضف إلى ذلك ضرورة ترميم بعض الجدران وتدعيمها... لكنّ الخلافات بين الطوائف التي تدير شؤون الكنيسة، وهي الأرمن، والروم الأرثوذكس، واللاتين، تعطّل أيّ عمل لإجراء ترميمات رغم المخاطر المحدقة.
الترميم الأخير الذي طال الكنيسة كان على يد رونالد ستورس، الحاكم العسكري البريطاني عام 1917. فعندما زار الكنيسة، رأى ستورس الجدار الحاجز المبنيّ أمام الهيكل على يد الروم الأرثوذكس عام 1842، الذي يشوّه الكنيسة بأكملها فكان من الضروري هدمه. وبعد جدل طويل، تمكّن ستورس من إقناع الطوائف الثلاث بهدم الجدار، ويعدّ اليوم ذلك الإنجاز معجزة لأن الخلافات بين الطوائف في تزايد. وآخر خلاف يعود إلى عشية عيد الميلاد الحالي، حينما حاولت إحدى الطوائف دقّ مسمار في أحد جدران الكنيسة لتعليق أيقونة، مما كاد يؤدي إلى حرب داخلية.
أهمية الكنيسة الدينية لا تقلّ عن أهميتها الأثرية. فهي تعدّ من أقدم الكنائس الموجودة في العالم، ويعود بناؤها إلى القديسة هيلانة (والدة الإمبرطور البيزنطي قسطنطين) في القرن الرابع الميلادي (326م)، وقد شيّدت على هيكل لعبادة الإله أدونيس الروماني. دامت الكنيسة البيزنطية التي عُرفت بكنيسة هيلانة، أو قسطنطين نحو قرنين من الزمان، وتظهر بقاياها في الفسيفساء الجميلة المعروضة في قاعة الكنيسة، بعدما كشفتها الحفريات الأثرية التي شهدتها الكنيسة بين عامي 1933ــــ 1934 على أيدي البريطانيين. وخلال تلك التنقيبات، كشف العلماء على طبقة سميكة من الرماد، وقطع الخشب المحترقة، ممّا يشير إلى حادثة حرق الكنيسة على يد السامريّين عام 529 م خلال ثورتهم على البيزنطيين في عهد الإمبراطور جستنيان، الذي بنى الكنيسة الحالية على شكل صليب، وسقفها بخشب الأرز المستورد من لبنان، وطلاها بالرصاص. وفي عام 1262م، دمّر الظاهر بيبرس مدينة بيت لحم، لكنه ترك الكنيسة التي رمّم سقفها الآباء الفرنسيسكان عام 1395م بإذن من السلطان المملوكي برقوق. ومرة أخرى، في عام 1435، جرى تجديده على يد الصليبيّين. وفي عام 1560، أجرى البطريرك جرمانوس ترميمات في الكنيسة، وفي الأعوام 1607 ـــــ 1617م أُجريت إصلاحات على الكنيسة من جانب الآباء الفرنسيسكان، وفي سنة 1671جدّد البطريرك دوسيتوس سقف كنيسة المهد، وأجرى عليها إصلاحات.
منذ أن أعاد جستنيان بناء الكنيسة خلال السنوات (530 ـــــ 533م) حتى الآن، لم تجر إضافة أو تغيير على بناء الكنيسة الخارجي، وإن كانت قد أضيفت مبانٍ حولها كدير الأرمن وكنيسة القديسة كاترينا للّاتين، التي لجأ إليها الآباء الفرنسيسكان، بعد طردهم من كنيسة المهد بفرمان من السلطان العثماني مراد الرابع.
وفي 25 نيسان 1873 حُرقت الكنيسة، واتهم الروم بذلك إثر خلاف مع اللاتين، ممّا أدى إلى أزمة عالمية تدخّلت فيها الدول الكبرى آنذاك. ونتيجة توازن القوى، ساد ما عُرف بـ«الستاتيكو»، أي الحفاظ على الوضع القائم، وهي الحجة التي تستخدمها الطوائف المختلفة لعدم إحداث أي تغيير في الكنيسة المهمّة المتداعية.
خلال العام الحالي، بدا أن معجزة ترميم الكنيسة ستتحقق من جديد، بعدما وضعت السلطة الفلسطينية ثقلها في إقناع الطوائف بإجراء الأعمال، وألّفت لجنة لهذا الغرض، وأصدر الرئيس محمود عباس مرسوماً، بعدما اتفق مع ممثلي الطوائف المشرفة على الكنيسة، وأعطى وضع الكنيسة المزري دفعة كبيرة بهذا الشأن.
وسألت «الأخبار» الدكتورة خلود دعيبس، وزيرة السياحة والآثار الفلسطينية عمّا آل إليه عمل اللجنة المكلّفة بالترميم، فقالت «هناك عطاء دولي إعداداً للدراسات اللازمة للبدء بترميم الكنيسة، لقد تسلّمت اللجنة الرئاسية الفلسطينية المكلّفة بالإشراف على الترميم، بالتعاون مع ممثلي الطوائف، العطاءات، وسنعمل على اختيار الطاقم الفني لدراسة المطلوب».
بعدما أنجز ستورس معجزته وأزال الحاجز، ذكر في مذكّراته مفتخراً أنه أقنع الطوائف بوجوب إزالة هذا الحاجز، لكنها لم تتفق على من يتحمّل التكاليف، فكتب «لقد كان لي شرف الدفع». والآن تتوافر الأموال ويتزاحم الداعمون، ولكن الأمور، يبدو أنها لا تجري كما يجب، رغم أن كثيرين تمنّوا أن يكون الحدث الأبرز هذا العام في كنيسة المهد، هو ترميم السقف، بدلاً من العرض الهزلي الذي يقدمه الرهبان في نهاية الأعياد، عندما يضربون بعضهم بعضاً بالمكانس، مختلفين على من سينظف الكنيسة المتداعية الجدران.