بنظرة واحدة إلى جدران المخيم يمكنك أن تدرك هوى سكانه ولمن تميل أفئدتهم. ملصقات وصور علّقت أثناء العدوان على غزة، منها للشهداء وأخرى للزعماء، بهتت بعد مرور عام، لكن من بينها صورة لا تزال رغم مرور الوقت تلفت النظر: صورة رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان، الذي لا يزال يحتل مكاناً في قلوب اللاجئينن، ولو أن مواقفه لا تزال تثير نقاشاً على ضوء المصالح التركية الإسرائيلية
قاسم س. قاسم
عام على غزة، رفعت الحرب ناساً في قلوب الفلسطينيّين، وهبطت بآخرين، وخصوصاً من أهل السياسة، بناءً على ما قاموا به في تلك الأيام المشؤومة، ما ترك أبلغ الأثر في أهل القطاع المنكوب، وأهلهم، في كل مكان، وخاصةً في المخيمات. ومع أن أسهم النرويجيّين ارتفعت، بناءً على مداخلة مدير عمليات الأونروا في قطاع غزة جون كينغ، كما ارتفعت أسهم الأطباء من هذه الجنسية، وغيرها بناءً على ما كانوا يقومون به على الأرض وفي وسائل الإعلام، فإن «ملك الساحة على بياض»، كان من دون منازع: رجب طيب أردوغان. هكذا، ومن خارج السياق العربي، جاءت فلتة الشوط. فرئيس وزراء تركيا كسب القلوب منذ أن احتدّ في مواجهة رئيس الكيان الإسرائيلي شمعون بيريز في منتدى دافوس، ومنذ تناقلت وسائل الإعلام غير المصدّقة، صورته وقد احمرّ وجهه من الحنق وهو يوجّه كلماته غير المتوقعة إلى رجل، أي بيريز، لم يكن يتوقع أبداً ما كان يقال له على مسمع من العالم، إضافةً إلى ما تردّد، من دون صور هذه المرة، عن بكاء زوجته فاطمة في الكواليس أثناء تلك المواجهة.
هكذا، عبّر أهل المخيم يومها عن شكرهم: نشر صوره في بعض أزقّة مخيم برج البراجنة، على جاري عادة اللاجئين الفلسطينيين بتعليق صور شخصيات عملت على تقديم الدعم لقضيتهم. لكنّ جديد الغرام بأردوغان وصل بأحد المعجبين بمواقف «العثملّي» الجديد، إلى طبع صوره على .. علم فلسطين نفسه. وفي طبع بورتريه رئيس وزراء تركيا على ما يعدّ هوية الشعب الفلسطيني، إشارة إلى عمق تأثير مواقفه في مشاعر هؤلاء. قبل أردوغان لم يرفع فلسطينيّو برج البراجنة صور أيّ من القادة العالميّين. ولا ندري بالنسبة إلى باقي المخيمات، ولكن هنا، حتى عبد الناصر نفسه، لم ينل حظوة الانتشار على جدران المخيم، ربما، حسب ما يقول البعض «خوفاً من المكتب الثاني». وإن كان القادة الأقرب الى القلوب «يراوحون بين السيد حسن نصر الله، الشهيد عماد مغنية... والرئيس العراقي الراحل صدام حسين. فقاصف إسرائيل بالسكود، لا تزال صورة له مثلاً تستقبل الداخل إلى المخيم، ربما منذ إعلانه دعمه المالي لأهالي شهداء الانتفاضة الثانية» .
ألغى مناورة نسر الأناضول كرمى لأهل غزة وأبو مازن لا يزال يناور
«أردوغان هادا لازم نعملو فلسطيني» يجيب أبو محمد «الدكنجي» عند سؤاله عن رأيه في رئيس وزراء تركيا. يجلس الرجل الستيني في محله بالمخيم، يتذكر أيام العدوان على غزة، ومتابعته اليومية لنشرات الأخبار. بالنسبة إليه، فإن رئيس الوزراء التركي كان في موقفه السياسي «أحسن من أبو مازن رئيس السلطة الفلسطينية نفسها». أما ما الذي يؤكّد نظريته هذه؟ فالمواقف المتكررة والمتصاعدة للدولة التركية التي «ألغت مناورة نسر الأناضول «كرمال» أهل غزة»، وأبو مازن «بعدو عم يناور كرمال يرجع على قطاع غزة!». وعند سؤال الرجل عن سبب تغيّر السياسة التركية تجاه فلسطين، وخصوصاُ أنها كانت تعدّ الحليف الأول لإسرائيل؟ فإنّه يجيب بأن السبب الرئيسي لهذا التغيّر، في رأيه، هو «ظهور الإسلاميين في تركيا، والخلفية الإسلامية لحكامها». وبغضّ النظر عن تبسيط التحليل، فإن أردوغان استطاع أن يخطف قلوب الفلسطينيين من خلال مواقف دعم كانت أشد ما احتاج الفلسطينيون إليه خلال حربهم، تُضاف إليها تصريحات الإسرائيليين أنفسهم، الذين رأوا أن تركيا لم تعد وسيطاً نزيهاً في المفاوضات مع سوريا، ما عُدّ هجوماً عليها، بسبب مواقفها الجديدة الداعمة للفلسطينيين. وقد تؤكّد صور رئيس الوزراء التركي، التي رفعتها الجماعة الإسلامية في مخيم البرج، والتي كتب عليها «شكراً أردوغان» نظرية أبو محمد، وخصوصاً بعد تبنّي الإخوان المسلمين والحمساويّين له ولمواقفه، إلا أن لعمر فهد، من سكان المخيم، رأي آخر. هكذا، يعيد الشاب تذكيرك بأن إيهود باراك وزير الحرب الإسرائيلي، «خدع العالم بفتحه معابر قطاع غزة بينما كان ذلك مجرد عملية تمويه»، من على منبر وزارة الخارجية التركية. ويضيف "حينها قال باراك في مؤتمر صحافي إنه لا توجد حرب قريبة على غزة، وهذا باعتقادي ما دفع تركيا المخدوعة إلى اتخاذ هذه المواقف الحادة ضد إسرائيل مع بدء الحرب». يتابع فهد تحليله، لذلك «رأت تركيا أن باراك لم يحترمها، وكذب من على منبرها».
إذاً تختلف وجهات النظر بحق أردوغان، الذي «يرأس دولة مش جمعية» كما يقول فهد، تعزيزاً لنظريته، ودعم تركيا للفلسطينيين "مش ع سواد عيونّنا، بل لأن تركيا «معاش» ينفعها الغرب». تترك التحليلات، تسير في المخيم لتجد مجموعة شباب، تسألهم عن رأيهم في أردوغان، وفي عودة تركيا من الباب الفلسطيني، وخصوصاً بعد إرسال تركيا عبر قافلة شريان الحياة مئتَي شاحنة محملة بالمساعدات إلى قطاع غزة؟ يصمتون قليلاً، نافثين ما بقي في صدورهم من دخان الأراكيلن، وبعد أن يُجمع أغلبهم على أهمية الدور التركي في المنطقة، يستطرد يوسف حداد متخيلاً صورة المنطقة لو أن «تركيا، سوريا، عراق، وإيران اتفقوا». ليسأل «ماذا يمكن أن يحصل حينها للمنطقة وللأمة الاسلامية»؟ الجواب جاهز و«تحت باط» زميله في الجلسة، فادي الخطيب، الذي يختار أن يكون واقعياً «روح يا عمي، الوضع كله ما منيح، وتركيا مصالحها عند حك الركاب، أهم من فلسطين». يرتفع صوت النقاش بين الشباب، يتراجع الخطيب عن شيء من تشاؤمه فيبدي ارتياحاً حذراً للمواقف المعلنة، متسائلاً في الوقت عينه عن «النوايا الحقيقية لتركيا» التي لا تزال، وخصوصاً تربطها مصالح «التجارة العسكرية الموجودة بينها وبين إسرائيل». يختلط الدخان بأصوات الشباب، وكلٌّ يأخذ النقاش إلى مكان، فيما تبدو صورة أردوغان، التي لا تزال على الحائط، مستعدة لمقاومة مرور الزمن لفترة إضافية قد تطول أو تقصر، حسب مواقف تركيا المقبلة.