حسن خليللبنان بلد التناقضات بامتياز. حروب صغيرة وكبيرة من الداخل والخارج على أرضه، وما زال مهاجروه متعلّقين بجذوره وجذورهم يرسلون إليه البلايين من الدولارات سنوياً، والعرب يجدون فيه مساحة من الحرية والسياحة لا يجدونها في بلدانهم. فوّت فرص الفورة الاقتصادية في السنوات العشرين الماضية، وركّب ديناً عليه يقارب ديناميكياً 58 مليار دولار ويتجه إلى 80 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة إذا استمرت وتيرة العمل السياسي وانعدام المسؤولية المالية.
قبل شبه الانهيار للنظام الرأسمالي، لم يكن ممكناً إقناع مصرفيي العالم ومستثمريه بأن دولاً عظمى قد تنهار أنظمتها المالية بحجة أن لديها قدرة غير محدودة على طبع العملة. اقتنع الجميع بستار نفسي شخصي ومؤسساتي وحكومي بأن الهيكل الذي صنعوه أقوى من أنانية الإنسان. توافرت فرص اقتراض الاستهلاك الشخصي التبذيرية، إلى الاقتراض الحكومي بكل فساده مع تغاضٍ شبه كامل و«مقصود» عن تنامي المديونية. تمادى الغرب في عدم تقدير المواقف حتى أصبحت عائدات الخزينة معتمدة إلى حد كبير على العائدات الضريبية «الورقية» أيضاً. بعض الدول الغربية تخلّت عن الإنتاج الصناعي والزراعي ولزّمته إلى شرق آسيا وأميركا اللاتينية. تحوّلت اقتصاداتها إلى ريعية وخدماتية. عشرون سنة من التنامي الورقي لأسعار الأصول من عقارات وأملاك وأسهم وسندات ويخوت وطائرات خاصة، قائم على إقراض وإعادة تقييم لإقراضٍ آخر، استفاد منه الأغنياء والشريحة الأعلى من الطبقة المتوسطة. الفقراء ازدادوا فقراً بعد الانهيار. لم يُقلق ارتفاع الديون المستدين ولا الدائن، ولم يعد همّ المستدين سدّ أصل الدين ما دام يؤمّن دفع الفوائد، وعند الاستحقاق تؤمّن له الأسواق تدويره.
لماذا هذا الكلام الآن عمّا حصل في العالم من انهيار مالي، وما علاقة لبنان به؟ أليس هو المعجزة الذي برهن أنه أذكى من العالم أجمع؟ الجواب بسيط إذا ما سأل اللبنانيون عن أوجه الشّبَه المتكاملة بين التراكمات التي سبقت الانهيار العالمي والواقع المالي. «كذبة كبيرة» ابتدعها بعضهم بأن لبنان محصّن أكثر من النظام العالمي الذي هو جزء بحجم الذرّة فيه. هل سألوا رؤساء الحكومات ووزراء المال والمجالس النيابية والمصارف إن كانت المديونية تقلقهم؟ الجواب سيكون: كلا، ما دام كلّ منهم يأخذ نصيبه. يواجهون بوقاحة التحذير بأن لبنان يمارس ما مارسه الآخرون قبله وانهاروا، وأنه «بنبوغهم» أقوى من النظام المالي العالمي. الخجل وحده دفعهم إلى الاعتراف بأنّ الدين العام مشكلة يجب حلها، لكنهم يوهمون أنفسهم بأن لبنان بأمان ما دامت نسبة الدين على الناتج في نمط انخفاضي إلى 160% (وهو فوق 200%، وهي ما زالت أعلى نسب دول العالم المصنّفة). كم مرّة يجب تذكيرهم بأن نسبة دين اليابان 180%، لكن اقتصادها متين بسبب إنتاجها الصناعي وميزانها التجاري، بينما الأرجنتين انهارت سنة 2001 ونسبة دينها إلى الناتج 55% فقط. إضافةً إلى ذلك، فإنّ لبنان ـــــ عكس الدول الكبرى ـــــ لا قدرة له على الطبع إذا انهار لأنه «مُدَوْلَر» ولا تصدير له قائماً على عملة وطنية إذا ما انخفضت تعيد إنقاذه كما حصل في البرازيل. اقتصاد غير منتج قائم على الودائع والتحويلات. فنادق محجوزة موسمياً وبعض المؤتمرات والأعراس ومقاهي سوليدير والاصطياف وصناعة تجميل السيليكون (وما يتبعها)، ليست ركائز اقتصاد إنتاجي.
عفواً، نسينا الفورة العقارية، التي تشبه إلى حد كبير الوضع في لندن. هل مَن يشير إلى أنها قائمة على تملّك اللبنانيين المهاجرين والعرب، وبالتالي ليست مؤشراً إلى واقع القدرة الشرائية لدى المقيم، بل على العكس تُكبّر الهوّة بين دخل المقيم والمهاجر؟
لمَن الصرخة؟ لسلطة شريكة بالكامل ومهندسة لما آلت إليه الأوضاع؟ أم لمعارضة متعايشة معها، إمّا من باب المنفعة أو قلّة المعرفة أو في انتظار وصول الحصّة إليها؟
قد ينهار العالم ولكن لبنان «محصّن». ريفه مهجور ومدنه تضيق بالبطالة وأطفال الشوارع. مياهه مهدورة وزراعته محصورة ببعض الزيتون والموز (بدل الحمضيات)، والخضر بالكاد تكفي الاستهلاك المحلي. ما كان ممكناً في مجال التصدير صناعياً وزراعياً قضت عليه المساومات السياسية مع دول النفوذ. وزارتا الصناعة والاقتصاد زواريب محاسيب فقط. وزارة المال تضبط توزيع المغانم الريعية.
لمَن الشكوى؟ لسلطة جائرة، ومعارضة متغاضية خوفاً من حشرها في زوايا ملفات هي غير مسؤولة عنها؟ غريب أنها لا تدرك أن العامّة أصبحت تصنّفها اليوم مع السلطة في المسؤولية. حكم وممارسة قائمان بالكامل على النهج نفسه الذي كان يمارسه لبناني يملك شركة كبيرة في المنطقة. كان يقول: لا يهمّ إن كان مديرو المناطق يرتشون ويرشون ما دمت أتسلّم أنا نسبتي آخر السنة. انتهت إمبراطوريته بالتصفية.
المسؤولون يعلمون أن الديون المترتّبة هي على الدولة والشعب، بينما الودائع ليست ملكاً لهما، ويخبئون هذه الحقيقة بحجة أن الإصلاح مستمر للاستفادة من الكتلة النقدية المتوافرة والخروج من نفق المديونية (يجب أن لا ننسى هدف خفض الدين على الناتج... عظيم).
مرة أخرى، يفوّت لبنان فرصاً تأتيه من حيث لا يدري. فبدلاً من أن يستفيد من أزمة الخليج (بعدما استفاد الخليج من حرب لبنان)، وبدلاً من أن تكون الودائع وسيلة للخروج من نفق المديونية، تُستعمل كبديل بعد شحّ أصول الدولة.
نعم، ارتفعت الودائع إلى 100 مليار دولار، ولكنها هي التي سمحت بـ58 مليار دولار ديناً، والحبل على الجرّار، وهنيئاً للبنان وسلاطينه ودائعهم. ماذا سيكون موقفهم عندما يصل الدين، لا الودائع، إلى مئة مليار دولار؟ كم ستكون الودائع يومها؟
سيكتشف اللبنانيون يوماً جريمة الدَّين العام، لكنهم لن يجدوا المجرمين.