قاسم عز الدين *إن تبحث على فكرة مفيدة في نقد أهل يسار لبنان لتجربتهم، تتُه كمن يبحث عن إبرة في كومة من القش. فالمناسبة احتفالية في عيد شيخ وقور بلغ الخامسة والثمانين، تحتمل المجاملات «بكاس يفزّ يبوس القنينة». لكن كآبة الأزمة لا تبرح الأنفاس، يتناولها جهابذة اليسار بمزاج عكر. واللافت أنهم ينطقون بفعل ماض مبني للمجهول، على اعتبار أن الأزمة قدرية لا شأن لهم فيها ولا أعباء. وهي، على قولهم، ثلاثية النوازل (الأبوكاليبس): انهيار «المعسكر الاشتراكي» ثم فراغ الأنظمة الاستبدادية العربية ثم التحام جلمود صخر الجماعات العصبية، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولا نرى، والحق يقال، الصلة بين هذه النوازل «القدرية» وأزمة اليسار في انعدام الرؤية، بل نراها في عجز اليسار عن استخلاص دروس الهزائم، حتى بمنطوق استمرار الحياة ومنطوق الحي أبقى من الميت، وعلى قول المسلمين المؤمنين: «مات نبي الإسلام وتدبّرت الأمّة حالها من بعده». ولا ريب في أنه عجز في أدوات المعرفة التي يظنها جهابذة اليسار «علمية» خالدة، حتى وإن حجبت عنهم قراءة الهزائم أو مجرد الاعتراف في وجودها.
ومثلما يُجمع الجهابذة على النوازل لعَجز أدواتهم المعرفية عن القراءة، يُجمعون على ما يسمّونه الإنقاذ أو الخلاص في ثلاث أمنيات حالمة موجّهَة إلى مجهول هي: إعادة ترميم النظرية لا أقل من ذلك، الدعوة إلى تكتل اليسار حيث الجبهة الوطنية العريضة متعذرة، الدعوة إلى إقرار برنامج إنقاذ وطني. ولم يقل الجهابذة إلى من يوجهون الدعوة لترميم النظرية وماذا يقصدون بهذا الترميم. (ما العمل مثلاً؟) والحاصل أن مفكري حركة العولمة البديلة وحركات المناهضة اشتغلوا على التحولات الرأسمالية النيوليبرالية المعولمة في ملفاتها المتعددة، واشتغلوا على البدائل وأنتجوا رؤى وأفكاراً وتجارب عملية أكثر من أن تُحصى وتُعد. اشتغلوا مثلاً على حرية السوق والتجارة الحرة والرأسمال المالي، وعلى العسكَرَة وأمن الأسواق وعلى التبعية الغذائية واستنفاد النظام الرأسمالي ثروات الطبيعة غير المتجددة... وعلى ما يسمى الشراكات الحرة والتجمعات الإقليمية وعلى انحسار دور الدولة لمصلحة مراكز النفوذ، وعلى الحكم العالمي واستراتيجية الحروب والتوسع الإمبريالي المعولم... فإذا لم يكن في هذا النوع من البحث ترميم للنظرية، أو على الأصح إعادة ضخّها بالأوكسجين لمواكبة التحولات الرأسمالية المعولمة، فلا ندري كيف يكون الترميم. لكننا ندري أن جهابذة يسار بلادنا لم يشتركوا في ورشات العمل الفكرية ولم يطّلعوا عليها ولا يحتملون دوخة التفكير والبحث ويفضلون الموهبة الفطرية.
الانطباعات «الفكرية» لجهابذة اليسار ارتجالية تنتمي إلى ثقافة ما قبل التحولات النيوليبرالية المعولمة
أما بشأن تكتل اليسار، فإننا نزعم أن هذا التكتل المزعوم لن تقوم له قائمة لسبب بسيط هو أن الندب المشترك لا يذهب بعيداً. فكل إناء بما فيه ينضح، ولا فرق في هذا الإنشاد بين العزف المنفرد وعزف الجوقة في بيان أو في مهرجان خطابي حاشد. لكن المهمة المستحيلة الأكثر انتشاراً هي الدعوة المزمنة لما يسميه جهابذة اليسار برنامج الإصلاح أو برنامج الإنقاذ وغير ذلك من التسميات. وفي ظنّهم مجموعة من التصورات والمطالب والمقترحات التي ينبغي أن تأخذ فيها الطبقة السياسية. وفي هذا الأمر يبلغ وهم جهابذة اليسار مبلغاً في عجز أدواتهم المعرفية عن معرفة الفرق بين التصورات الاحتجاجية وبرنامج قراءة الأزمات وحلولها. ولا نظن كائناً من كان يمكن أن يبيض برنامجاً، قبل بحث ملفات الأزمات العينية وحلولها، وقبل تحسّس الصلة بالفئات الاجتماعية التي يمكنها أن تحمل هذا البرنامج وحجمها في موازين القوى. فالانطباعات «الفكرية» التي يشرّق فيها جهابذة اليسار ويغرّبون، أقل ما يقال فيها إنها ارتجالية تنتمي إلى ثقافة عصر ما قبل التحولات النيوليبرالية المعولمة. حينها كانت السلطة المحلية الأكثر تبعية للسوق الدولية، مسؤولة عن السياسات (الوطنية) المحلية إلى حد بعيد. وكانت أقل تبعية إلى استراتيجيات «المجتمع الدولي»، وكان يؤدي ضغط الشارع غالباً إلى انتزاع المطالب وتغيير موازين القوى السياسية المحلية. لكن هذه الحال باتت بغير حال، وما يبدو في عالم اليوم سلطة محلية، هي في حقيقة الأمر سلطة معتمَدَة في منظومة معولمة متشابكة المصالح ومراكز الثقل، يستحيل الضغط عليها وتغيير سياساتها الأساس في رقعة محلية أو وطنية ضيقة.
والحال، إن شكل الحكم في لبنان محلي يقوم على المحاصصة الطائفية. لكن السلطة، لا سيما في وزاراتها «السيادية»، ليست سلطة محلية في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية... وهي محكومة بالسوق الدولية واتفاقيات الشراكة والدول المانحة ونادي باريس... واستراتيجيات السلام ومكافحة الإرهاب... وموكَلَة بتنفيذ هذه السياسات تحت إشراف «المجتمع الدولي» وهيئاته ومؤسساته الدولية ومراقبتها. وهب أن جهابذة اليسار وصلوا اليوم إلى الإمساك بزمام السلطة، فماذا عساهم فاعلون؟ لنقل إنهم ألغوا بقدرة قادر المحاصصة الطائفية في شكل الحكم وأقرّوا القوانين الانتخابية والدستورية التي تروق لهم. ثم ماذا عن السلطة وهل ستخرج عن وكالة «المجتمع الدولي» أم لا. وكيف ستحل مشكلة المديونية والضرائب ومشكلة الزراعة والصناعة والصحة والتعليم والبطالة... وما هي سياستها في الحقل الإقليمي، أهي سياسة اندماج إقليمي وسلطة عليا مشتركة فوق الدولة، أم سياسة «أطيب العلاقات» في استقلال كل دولة عن الأخرى. وماذا عن اتفاقيات الشراكة والسوق الدولية والتجارة الحرة. وماذا وألف ماذا وكيف، لا بد أن يستند البرنامج الجدي إلى بحثها بحثاً عينياً معرفياً، من العام إلى الخاص أي من الدولي إلى المحلي المتشابك بالدولي والمتصارع في آن.
فالانطباعات الذهنية المنتمية إلى ثقافة عصر ما قبل التحولات المعولمة، لا تحلّ محل البرنامج الجدي بحجة العمل المطلبي والحراك الاجتماعي وما يسمى «الحل العلماني». فما يرشح عن مطالب جهابذة اليسار في هذا الشأن أقل ما يقال فيها إنها مطالب غير واعية للأزمات والحلول. خذ مثلاً ما رشح أخيراً عن المشروع الزراعي الكبير بشأن نهر الليطاني، وهو نسخة متفرعة عما أسماه البنك الدولي في السبعينيات «الثورة الخضراء الكبرى» لمحاربة الجوع والفقر. وقد ترافقت تلك السياسة بفلسفة زيادة الإنتاجية وتصدير الخضار إلى السوق الدولية وتغيير الزراعة المحلية إلى زراعة دولية ثم زيادة التبعية الغذائية والفقر والجوع... ويتبيّن أن حل هذه الأزمات لا يحصل كيفما اتفق دون بحث عيني في التحولات النيوليبرالية الزراعية من العام إلى الخاص، وإعادة تأهيل الزراعة المحلية في الحقل الإقليمي لا المحلي وحسب. خذ مثلاً المطالبة بتعميم الكهرباء ولماذا لا تكون الأزمة حافزاً للمزاوجة بين الطاقة الأحفورية والطاقة البديلة التي تتعهدها البلديات في القرى والمدن، حيث لليساريين وكل الناس دور مباشر. ثم لماذا المطالبة بخفض أسعار محروقات السيارات عوض المطالبة برفع أسعار البذخ الفردي الإجرامي، وتنظيم النقل العام وصرف فائض صندوق البنزين على المتضررين من تلوث السيارات. ولماذا ولماذا... لأن جهابذة اليسار يطلقون المطالب «الاجتماعية» على عواهنها دون عناء الاطلاع على الإنتاج الفكري الهائل في قراءة التحولات النيوليبرالية المعولمة ودون البحث المعرفي الجدي في ملفات المشاكل المحلية والإقليمية.
في حالة مشابهة أنشأت منظمة «أتاك» هيئة علمية لبحث الملفات والمطالب والإنتاج الفكري والعملي. وقد دخل إليها في مناسبة أو أخرى العديد من الخبراء المرموقين، كل في حقله المعرفي وميدان عمله. وأصبح إنتاجها ثقافة سياسية بديلة تهتدي فيها المنتديات الاجتماعية وحركات المناهضة وتؤثر على المؤسسات الدولية. وأغلب الظن سيجد اليسار، في خبراء هذه الهيئة، معيناً غزيراً، إذا أراد تحمل مسؤولية قراءة الأزمات والبحث عن حلول وبدائل. وسيجد حوله فائضاً من الكادرات المقيمة والمهاجرة ووفرة من الخبرات والمعارف بين الناس والعاملين... ولعل الخطوة الأولى يمكن أن تبدأ فور اقتناع جهابذة اليسار بأن الحزب والتنظيم والتكتل ليست الأطر الوحيدة للشأن العام وتحمّل المسؤولية. وأن القيادة الملهَمة ليست بالضرورة ملهَمة في كل أمر.
* كاتب لبناني