وائل عبد الفتاحالانتخابات في العالم العربي لا تؤدي إلى المستقبل. تؤدي إلى الدوران حول نقطة واحدة. سير في المحل. المستقبل يسير باتجاه تكريس الحاضر. وكلما كان التغيير متاحاً تتوقف فعالية الانتخابات أو تدخل في متاهة إعادة صياغة القوانين. إنها لحظة «اللاديموقراطية واللاشمولية». لحظة تتعطل فيها الطاقات القائمة والقادمة لمصلحة سجال لا ينتهي إلى شيء.
لبنان مثال مهمّ، وتونس وانتخاباتها زادت الإحساس بالتسلّط. أما مصر، التي يبدو فيها الملعب مفتوحاً أكثر، فالسجال عن الانتخابات يعوّض الانتخابات نفسها. والمستقبل هو الماضي بالنسبة إلى المختلفين. الفارق هو أيّ ماضٍ: الدولة الناصرية وبحكمها العسكري أم مبارك (وهو ماضٍ مستمر) البين بين.
لا مستقبل في الحوار حول المستقبل. قادة الحزب الوطني الحاكم في مصر أصابتهم في المؤتمر الأخير نشوة انتصار ما. انتصار لا يعرف أحد سرّه الحقيقي. ربما شعروا، للمرة الأولى، أنهم «حزب». يحدث هذا بعد ٣٠ سنة من الواقعة الهزلية التي انسحب فيها الرئيس السادات ورجال السلطة من حزب مصر العربي الاشتراكي ليكونوا حزباً يحكم مصر منذ ٣٠ سنة.
٣٠ سنة والحزب الوطني ليس حزباً. نادي مصالح ومنتخب المنتفعين بالقرب من السلطة. هذا رأي قديم. لكن الجديد أن الحزب عندما أصبح حزباً اختار النموذج الأميركي، بداية من اختيار كلمات يتم ترديدها ما بين كلمة وأخرى في كلمات الحزب. الفلاح كانت كلمة المؤتمر الأخير. يرددها مسؤول ومن خلفه كورس كبير من الوزراء والقيادات الحزبية.
قاعة المؤتمر مصمّمة على موديل مؤتمر دافوس (القمة الاقتصادية الثانوية)، حيث تتكون المنصّة من مجموعة صنّاع القرار الذين يشرحون المستقبل إلى مجموعات تتلقّى المعرفة بطريقة أنيقة.
هذا الترتيب لا يتناسب مع شعارات الحزب عن الاهتمام بقاعدة البسطاء أو التحام الحزب بالجماهير أو النزول إلى الشارع. جمال مبارك أحبّ كلمة «النزول» جداً. يكررها في مواقف متناقضة. يقول إنه «نزل» إلى الجماهير في القرى المصرية. ويقول في الوقت نفسه «ودلوقتي حا انزل القاعة»، ويعني أنه سيفتح المجال لأسئلة القاعة.
كلمة النزول تكشف عن مشاعر حقيقية في أنه يقيم عالياً. وقرر النزول إلى مستوي الناس، أو هكذا يردد تعليمات مدربيه أو مدرسيه السياسيين له بمحاولة صنع قاعدة شعبية. لكن جمال يردد الكلمة كأنها اكتشاف، كما لو كان تلميذاً في أول سنة ويعود إلى البيت مردداً الجمل الجديدة التي تعلمها في المدرسة. هناك من علّم جمال أنه لكي يعبر إلى طموحه لا بد أن يحصل على رصيد شعبي، وهذا يعني النزول إلى الشارع.
وهو يطبق الدرس حرفياً. ويشير إلى فكرة النزول وكأنها اكتشاف. وهي بالفعل اكتشاف. فهو في السياسة نزل بالباراشوت العائلي. لم يصعد تدريجياً مثل محنّكين وخبراء يقودون الحزب معه، مثل الدكتور محمود محيي الدين أو الدكتور يوسف بطرس غالي. هما نموذجان للسياسي الحديث، لكنه يضع خدماته وأفكاره في جراب المبتدئين الهابطين بالمظلات.
هناك فرق كبير بين نموذج جمال مبارك ونموذج محيي الدين أو غالي. هما من أنصار أفكار ليس لها شعبية. دولة رأسمالية على الطريقة الأميركية، هذه عقيدتهم ودراستهم، لكنها «فهلوة» الحكام المصريين الذين يغيرون حسب مراكز القوى التي يرتبطون بها.
السادات عندما كان يحمل بقايا الاشتراكية سمّى حزبه «مصر العربي الاشتراكي». وعندما رحل تماماً إلى الحلم الأميركي، حمل غالبية نخبته إلى الحزب الوطني الديموقراطي.
جمال مبارك مزروع في دفيئة سياسية لا يستطيع الاستمرار في السياسة بعيداً عنها. ولهذا فإنه يردد الكلمات والأفكار مثل تلاميذ لديهم سلطة. ويقودون قطعاناً من سياسيين عابري العصور، وملامحهم قديمة من أيام الاتحاد الاشتراكي. والمشهد كان غريباً؛ تصميم قاعة على طريقة حديثة وفخمة، تفوق حتى الطريقة الأميركية في المؤتمرات الحزبية، ووجوه قديمة جداً موروثة من الاتحاد الاشتراكي.
مشهد عبثي يبثّ على الهواء، تقابله مشاهد أخرى لا نراها. مفرمة كبيرة يديرها رجال الحزب القدامى (الحرس القديم) لكل من يقع حظّه العاثر في أزمة تخصّ السمعة أو الأداء.
قام مؤتمر الحزب على غزل مؤقت للفقراء، وهو التفاف مدروس لتغيير المزاج السياسي من الحوار حول الحريات السياسية ومستقبل الحكم إلى الحوار بشأن الحقوق الأساسية والاقتصادية. الفارق مهم لأن الحوار الأول يهدف إلى تغيير المجال، بينما الحوار عن المشاكل والأزمات الاجتماعية والاقتصادية يتحدث عن مشاريع وحلول كلها في يد النظام لا غيره.
هذا هو التغيير الوحيد الذي يسير بمصر والمنطقة من السؤال الكبير إلى التفاصيل. والشيطان، الذي يكمن في التفاصيل، سيصادر المستقبل لمصلحة العودة إلى الماضي أو الموافقة على استمرار الماضي بصوره الجديدة. هي إذاً مرحلة لن تظهر الشمولية أنيابها الكاملة، لكنها لن تسمح للديموقراطية بأن تظهر وجهها الحالم إلا تحت رعايتها.