منى عباس فضل *ثمة مقاربتان، سوسيولوجية وأخرى تربوية، لفهم فتوى وزارة الأوقاف الكويتية التي صدرت بشأن اللباس الشرعي للمرأة المسلمة (الحجاب)، استجابة لسؤال نائب إسلامي في مجلس الأمة. على إثر صدور الفتوى، تعالت الأصوات والدعوات تطالب النائبتين غير المتحجبتين بالتزام الفتوى وارتداء الحجاب، أو شطب عضويتهما من البرلمان بسبب مخالفتهما قوانين الضوابط الشرعية المتفق عليها مع القوى السياسية والديموقراطية وقتما مُرّر قانون منح المرأة الكويتية حقوقها السياسية عام 2005.
خضّت الفتوى لا ريب الشارع السياسي الكويتي، والمتوقع ألا يسلم المجتمع من ارتداداتها التتابعية إذا قضت المحكمة الدستورية بالحكم لمصلحة النائبتين في الطعون القضائية المقدمة ضدهما، أو على النقيض قضت لمصلحة الموقف المتشدد، لا سيما أن هناك من يجد أن أصل الفتوى الدينية اختراق للمؤسسة الدستورية، فضلاً عن كونها رأياً توجيهياً للمحكمة الدستورية العليا وتدخُلُ في اختصاصاتها. والأكثر من هذا وذاك، أنها تخالف الدستور وتنقلب عليه كما تتضمن مساً بهيبة الدولة.
لكن ماذا عن المقاربتين؟ المقاربة الأولى، السوسيولوجية، ذات صلة بفرضية بحثية وردت في كتاب «الديموقراطية العصية في الخليج العربي» لباقر النجار، وهي تفسر جانباً من جوانب إشكالية الفتوى. الفرضية تفيد بأن المجتمعات الخليجية ــــ وحتماً المجتمع الكويتي ليس استثناءً ــــ لا تزال عصية على تحقيق التحول الديموقراطي بسبب وضع الدولة، وبنيتها وعلاقاتها مع مؤسساتها الرسمية والأهلية، التي لا تزال في طور التشكل. عصية لأن عملية التغيير تتطلب تغيراً وتحولاً في ثقافة الدولة وآلياتها، وأساساً في ثقافة المجتمع. فعلى الرغم من حجم التغيرات والتحولات التي حدثت على بنائها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، تبقى المجتمعات الخليجية انتقالية، تحمل في أنساقها الاجتماعية قدراً من التغير والاستمرار والمقاومة معاً. وبقدر ما تبدو أبنيتها السياسية والاجتماعية في ظاهرها حداثية، إلا أن أداءها وظائفها يبقى محكوماً بجذورها التقليدية المقاومة للتغير، رغم ضخامة الضغوط التي تخضع لها من قوى العولمة وآلياتها. وماذا أيضاً؟
أيضاً، أن البنى السياسية في المجتمعات الخليجية، حسب النجار، تبدو حديثة في ظاهرها بيد أن الجماعات القبلية والمذهبية تتنافس فيها أو من خلالها، إلى حد العراك للحصول على السلطة والنفوذ والمكانة، عبر ما تنشره تضامنياتها من فساد، وما تسعى إليه من مصالح خاصة تتمثل بتسخير واسع لكبار موظفي الدولة وصغارها، من العاملين في الجهاز البيروقراطي، لخدمة أغراضهم الشخصية وللإثراء السريع.
ولا عجب من قول محلل سياسي كويتي «إنه، بعد مرور ربع قرن على تأسيس النظام الديموقراطي الدستوري الكويتي، لم يهتد المجتمع بعد إلى توليد ثقافة وإيمان مجتمعي بمسألة الدولة المدنية التي يحكمها الدستور، بما يرسخه من مفهوم المواطنة والمساواة، إذ من الطبيعي أن يستفتي المواطن وزارة الأوقاف فيما يستشكل عليه فهمه في أمور دينه، إلا أنه من غير الطبيعي أن تُهدم أسس المجتمع ومقوماته من نائب وصل للبرلمان في ظل دستور يشرع لدولة مدنية، وأن يحاول هذا النائب تفريغ الدستور من محتواه والالتفاف عليه باستفتاء جهة غير مختصة (إدارة الفتوى والتشريع) لتفسير مواده، ثم يحاول فرض الفتوى على غيره. الحجاب مطلب شرعي للمرأة، لكن القضية المختلف عليها قضية دستورية وليست شرعية، والجهة المخولة بتفسير المواد والنصوص الدستورية هي المحكمة الدستورية».
من غير الطبيعي أن تهدم مقوّمات المجتمع ممن وصل إلى البرلمان في ظل دستور يشرّع لدولة مدنية، ويحاول تفريغ الدستور من محتواه
في سياق السجال، أشارت النائبة أسيل العوضي إلى أن الكويت دولة مدنية يحكمها القانون، لا الفتاوى الشرعية، مؤكدة التزامها بقرار المحكمة الدستورية. وطالبت النائبة رولا دشتي بتعديل قانون الانتخاب وشطب الجزء الذي يفرض الضوابط الشرعية، لأنه مخالف لما جاء في الدستور. ودعت أخريات من خارج مجلس الأمة لإعادة الاعتبار للدستور، وتعديل القوانين المشتبه في تعارضها معه، كقانون الجنسية والاختلاط وعمل المرأة، فيما وجدت إحدى المحاميات أن قرار المحكمة غالباً ما سيركز على مسألة الاحتشام في اللباس أثناء حضور جلسات المجلس، وهو ما لا تخالفه النائبتان. أما عبارة الضوابط الشرعية بشأن لباس المرأة، كما وردت، فهي فضفاضة لغوياً وقانونياً، وخصوصاً أن الاحتشام لا يعني الحجاب المتعارف عليه، ولفظة الحجاب قانونياً لم يجر تداولها في الضوابط الشرعية. لذا فالحكم الدستوري المتوقع هو ما يتأسس على الالتزام بمبدأ الحشمة. وإذا قبلت المحكمة الطعون القضائية، فالاحتمال وارد لرفع مئات الدعاوى القضائية في اتجاهات مختلفة، مما يزج بالمجتمع في متاهة قضائية ودستورية معقدة، ويعرّض مجلس الأمة للمزيد من الأزمات السياسية، ويبعده عن القيام بدوره الحقيقي في التشريع والرقابة.
المقاربة الثانية تربوية، تتلخص في الإشكالية التي عالجها الباحث أحمد إبراهيم اليوسف (مجلة عالم الفكر عدد 29)، إذ وجد أن المشروع التربوي العربي فشل في إحداث تغير في أعماق الإنسان العربي ونظرته إلى الكون والطبيعة والعالم، وهو ما أفقد التطور الكمي، الذي لا يمكن إنكاره في مجتمعاتنا، قيمته الحقيقة. فأبرز أسباب الفشل حسب الباحث تتبين في بنية نمط التخلف السائد في النظام الاجتماعي، والانحيازات الثقافية والفكرية، بما تشتمل عليه من قيم ومعتقدات ومعايير وتفسيرات، إلى جانب المسلمات المعرفية الجمعية التي تعتمل في الشعور واللاشعور، وتمثّل بدورها مصدراً خفياً لكل سلوك وفعل. التحيز الثقافي هنا يلعب دور المرجعية المعرفية فيبرر سلوك الامتثال والضبط الاجتماعي، ويمارس بالتالي دوراً عطالياً في المجتمع. الدليل يكمن في القهر الممارس على المرأة العربية بما يبرر له عبر التحيز الثقافي والفكري الجبري ــــ العطالي، من خلال التسليم بالقدر الإلهي المحتوم للمرأة (الرجال قوامون على النساء) من جهة، ومن جهة أخرى بالتسليم بالواقع وقوانينه وأعرافه وتقاليده وقيمه التي تشيّئ المرأة وتحتقرها وتبخسها، فهي «طناقصة عقل ودين»، وهي «عورة»، كما أنها «ضلع أعوج»، مضيفاً إلى ما سبق، النظرة المتخلفة والمضطربة إلى عمل المرأة الذي عجزت التربية العربية عن تفكيكها وتحطيمها، واجتثاث التخلف من أعماق الإنسان العربي. فالتربية السائدة شكلانية ومستوردة ومهمتها انحصرت في الإبقاء على السائد وإعادة إنتاجه. في نهاية المطاف، دلالات فشل التربية العربية في إطار علاقتها بالمجتمع تتضح من كونها لم تفسح أو تهيئ مكانة فعلية للمرأة الخليجية في الحياة السياسية، برغم مما احتوته مواد الدساتير المدونة على الورق من حقوق للنساء، إلا حين يلتزمن بالضوابط والمحددات التي تفرضها الثقافة السائدة والأيديولوجية المهيمنة.
الخلاصة، ليس من المبالغة القول إن فتوى حجاب نائبات مجلس الأمة الكويتي، في شكلها العام، نتاج للحالة العصية التي تحكم المجتمعات الخليجية تجاه عملية التحول الديموقراطي، وفي وجهها الآخر نتاج لفشل التربية العربية وضمور قدرتها على إحداث تغير جوهري في تفكير الإنسان، مما يؤهله لتجاوز المعطلات والانحيازات الفكرية والثقافية. الفتوى الدينية بشكلها الأكثر تحديداً تعد إفرازاً طبيعياً لهيمنة قوى الإسلام السياسي وأيديولوجياتها على مؤسسات الدولة وسلطاتها. المسألة أكبر من حجاب، إنها صراع يتمظهر في مواقف واتجاهات متشددة تتداخل وتتشابك فيها العلاقات القبلية والمذهبية والفئوية، وحالة الاغتراب الدائرة حول كيفية حكم الكويت أو غيرها: هل تحكم عبر دولة مدنية حديثة تقوم على الدستور والقوانين، أم عبر دولة تتأسس على قوانين وتشريعات تتحكم فيها الاجتهادات وتضبطها الفتاوى؟ بالفعل هذه الحالة تمثل معضلة وتحدياً جوهرياً!
* باحثة من البحرين