همام الرفاعي *يحمل العام 1968 سحره الخاص في العالم، من الثورات الطلابية في أوروبا إلى ربيع براغ. لكن حين نتذكّر هذا العام، نادراً ما يخطر في بالنا ما جرى آنذاك في المكسيك حيث يعود تشرين الحزين عاماً بعد عام، كنشاط موسمي، أو بروتوكول شوارعي. بعض الصبية المقنعون وشيء من الهوبرة التي تكاد تكون كاريكاتوراً للحركة الطلابية المكسيكية التي سحقت في مذبحة رهيبة عام 1968. دائماً هناك من ينتظر هل ستحمل ذكرى مذبحة الثاني من تشرين شيئاً جديداً هذا العام؟ يمر اليوم الثاني والثالث والرابع من الشهر، يمر أسبوع بل يكاد ينقضي الشهر ولن يفقد الأمل بعد. ربما يمر عام آخر ويستمر الانتظار. هل آن الأوان لطي صفحة الماضي؟ هل صار بوسع الموتى أن يرقدوا بسلام؟ تمر المجزرة مرور الكرام في وسائل الإعلام المكسيكية، في نشاطات ومواقف الأحزاب والحركات التي تحيي المناسبة وتلك التي تتظاهر بإحيائها، في المواقف الرسمية. ماذا بقي من الطلاب الذين ذبحتهم آلة العنف الفاشي ليلة الثاني من تشرين الأول من عام 1968 في ساحة تلاتلولكو Tlatelolco))، الساحة المعروفة بساحة الثقافات الثلاث في مدينة مكسيكو: كومة من الفروض المدرسية التي لم تنجز حتى اللحظة، كومة من الأحلام وكومة من العظام.
كانت المكسيك تستعد لاستقبال دورة الألعاب الأولمبية لعام 1968، وكان الحزب الحاكم ذاته (الحزب الثوري الدستوري: PRI) يرى في ذلك فرصة تاريخية لإعلان دخول المكسيك إلى نادي الدول الرأسمالية الحديثة. ولكن المكسيك العظيمة والعميقة كانت تعيش بعيدة عن أوهام حكامها، وتكابد ضنك الفقر والتهميش الناجم عن قرون من الاستغلال والتسلط الخارج عن حدود المعقول. كانت النقابات العمالية والمنظمات الحزبية تتحرك وتواجه بالملاحقة والقمع رغم تواضع مطالبها وسهولة تحقيق بعض هذه المطالب. إلا أن النظام الحاكم كان يخشى أن يفسر أبسط تجاوب على أنه إشارة ضعف أو تراخ. وسرعان ما تبين أن الرئيس غوستابو دياث أورداس ((Gustavo Díaz Ordaz ووزير داخليته لويس إتشبرياه (Luis Echeverría) الذي سيخلفه في الكرسي الرئاسي قد بدآ يفقدان أعصابهما ويتصرفان بمزيج من التوجس البرانويدي والحقد الأعمى أمام الطلاب الذين خرجوا متضامنين مع عمال سكك الحديد والأساتذة والأطباء والفلاحين، ومطالبين باحترام استقلالية المؤسسات الجامعية وبالإفراج عن معتقلي الرأي.
وفي ليلة المذبحة كان أكثر من عشرة آلاف طالب ونصير للحركة الطلابية مجتمعين سلمياً في ساحة تلاتلولكو عندما طوق الجيش الساحة تمهيداً لإخلائها بالقوة. فجأة أُطلق النار على الجيش من المباني المجاورة، فرد بفتح النار دون تمييز على الطلاب. الرواية الرسمية ظلت تردد لعقود أن المتظاهرين كانوا البادئين بإطلاق النار مع أن الحقيقة هي أن النظام الفاشي كلف فريقاً من الحرس الرئاسي المتنكرين بالزي المدني بإطلاق النار لنصب فخ للجيش وليعتقد الجنود والضباط أنهم إنما كانوا يدافعون عن أنفسهم. الرواية الرسمية سجلت سقوط ما بين 27 و30 قتيلاً، فيما تقارير الصحافة الغربية تحدثت عن حوالى 300 قتيل. بعض الذين شهدوا المجزرة أكدوا لكاتب هذه السطور أن عدد القتلى يفوق الألف وأن الجيش ألقى بأجساد الجرحى مع جثث القتلى في الشاحنات نفسها، حيث نُقلت إلى جهة مجهولة. بعد ذلك حضر عمال التنظيفات وشطفوا أرض الساحة من آثار الدماء.
ما زالت المجزرة تلقي عبئاً ثقيلاً على الذاكرة الجمعية وعلى ضمير الحياة الثقافية
ورغم جهود من بقي من الذين حالفهم الحظ بالنجاة وإن كانوا قد تعرضوا للاعتقال والتعذيب، ومطالبات عائلات الذين لقوا حتفهم وكثيرين من الذين كانوا عام 1968طلاباً يافعين مشاركين أو أولاداً متعاطفين مع احتجاجات الحركة الطلابية بكشف الحقيقة، فإن الوقائع الكاملة لما جرى ما زالت غير واضحة بدقة اليوم، وكثيرا ما تمتزج بروايات مجتزأة وتكهنات وتفسيرات. لقد جاء حزب الفعل الوطني اليميني (PAN) إلى السلطة بدعوى الديموقراطية وإنهاء حكم الأوليغارشية المتمثلة في الحزب الثوري الدستوري (PRI) الذي حكم المكسيك سبعين عاماً متواصلة، فيما فشل اليسار المكسيكي في قطف ثمار تضحياته الجسام من أجل شق الطريق الديموقراطي بعدما أرهقه الاضطهاد ونالت منه الحروب القذرة المفتوحة عليه، وبعدما أبقته عمليات التزوير الانتخابي الشهيرة بعيداً عن مراكز التأثير وصنع القرار. ولم يستطع اليميني فيسنت فوكس (Vicente Fox) الذي فاز عام 2000 كأول رئيس جمهورية مكسيكي من خارج الحزب الثوري الدستوري (PRI) التنصل من دينه السياسي والمعنوي نحو ضحايا تلاتلولكو، فأعلن فتح مئات الملفات المتعلقة بالجريمة. تنفس الكثيرون الصعداء في حينها. لكن التجربة أثبتت أن التفاؤل كان في غير محله، وأن دوافع الرئيس الجديد الذي حمل وعد التغيير كانت تكتيكية ودعائية. ففوكس الآتي إلى رئاسة الجمهورية من موقعه الإداري في شركة الكوكا كولا ومن خبرته في تسويق المشروبات الغازية، كان فطناً لصعوبات هضم المجزرة. غير أن سنوات حكمه مضت دون أن تحمل أي جديد يستحق الذكر، وجاء خلفه ومحازبه فيليبه كالدرون (Felipe Calderón) وما زال الصمت الثقيل والجهل بالحقائق يخيمان على هذه الحقبة المظلمة من تاريخ المكسيك المعاصر. ما زالت الملفات تحتاج إلى من ينفض عنها الغبار، وما زالت الوثائق الرسمية تنام في أدراج المكاتب، ويبدو أن بعضها قد ضاع أو بالأحرى قد ضُيّع عمداً! أما العوائق المفتعلة التي تحول دون تقديم المسؤولين عن الجريمة للعدالة فهي نفسها التي كانت سائدة في زمن ديكتاتورية الأوليغارشية. العدالة ما زالت بعيدة. ومن اللائحة الطويلة من المجرمين والمتواطئين التي تشمل رؤساء سابقين، وزراء، موظفين كباراً وصغاراً، لم يُقدّم حتى اللحظة شخص واحد للمحاكمة.
لقد تركت المجزرة ندوباً بشعة في وجه النظام السياسي المكسيكي. وما زالت تلقي عبئاً ثقيلاً على الذاكرة الجمعية وعلى ضمير الحياة الثقافية. أكثر من أربعين عاماً مضت وما من وثيقة رسمية تثبت أسماء الذين قضوا في هذه المجزرة الفظيعة. بل ليس هناك اليوم موظف واحد في نظام الرئيس فيليبه كالدرون يستطيع أن يقدم مجرد ثبت رسمي بعدد الضحايا.
* كاتب لبناني