عبد الأمير الركابي *كثرة من الكتاب، وخصوصاً العراقيين، يتحدثون عن الاحتلال الأميركي ويشبّهونه بداهة بالاستعمار الإنكليزي. هذه القضية صار حضورها ثقيلاً في تضاعيف الموقف والتقدير السياسي، وهي تلقي ظلالاً على تقييم ظواهر هامة برزت ولا تزال موجودة أو تراجعت أو اختفت. لم يكن الأدب السياسي أيام الاستعمار الإنكليزي قد اضطر لمثل هذه المسارعة في التمييز. وأصلاً التمييز بين ماذا وماذا؟ اليوم تجوز المقارنة على ما سبق، بينما المقارنة بين الاحتلال العثماني والاستعمار الإنكليزي لم تكن تخطر على بال أحد. الاستعمار «بنية» تاريخية، تأسس الوعي الوطني الحديث المستعار باسمها وعلى ضوء اعتباراتها. وما بين المواجهة الشعبية العفوية التي كانت جاهزة في كل وقت، وواسعة وجذرية، وعززت حضور الأحزاب والتيارات الوطنية المعاصرة عملياً بسرعة وقوة، وبين الأفكار التي احتاجها قادة الحركة الوطنية ومنظروها، وحضورهم في الحياة، كانت الكفة تميل إلى الجانب العملي المزدهر باستمرار. ولكن هذا لم يكن سوى عنصر من العناصر التي أخّرت تبلور المنظور الوطني العراقي الحديث للاستعمار.
مؤكد أن أبرز قادة الحركة الوطنية العراقية لم يكونوا هم أبرز قادتها النظريين. فالتيار الليبرالي كان قد عرف مثقفاً مبدعاً ومنظراً من طراز رفيع هو عبد الفتاح إبراهيم كاتب «على طريق الهند»، إلا أنه لم يحتل ما احتله كامل الجادرجي في قيادة الحزب الوطني الديموقراطي وواجهته. وزكي خيري، الأهم من بين مؤقلمي الفلسفة الماركسية والمادية التاريخية مع واقع العراق، لم يكن يداني مكانة فهد (يوسف سلمان يوسف)، والسبب هو غلبة الجانب العملي على النظري في إجمالي الحالة العراقية. وعموماً فإن أول تقدير يقترب من الكمال للبنية الاستعمارية الإنكليزية في العراق، كتب بعد ثورة تموز 1958، وضعه زكي خيري بمثابة اقتراح إبان التحضير لقانون الإصلاح الزراعي. وكان تحت عنوان «في المسألة الزراعية»، وفيه كرر انتباهة فهد المبكرة عام 1942 إلى موضوعة «نمط الإنتاج الآسيوي» الشهيرة لأنجلز، لكنه وضع تصوراً موسعاً مقارنة بتقدير فهد شبه العابر. الحزب الوطني الديموقراطي كان قريباً من الشيوعيين في الموافقة على الموقف من التغلغل الرأسمالي والانتقال بالزراعة العراقية من الكفاف إلى التصدير، وتحول الشيوخ المشاعيين إلى ملّاك إقطاعيين وانسلاخهم عن أبناء جلدتهم المشاعيين الزراع المحاربين، ونهبهم أرضهم وأرض أجدادهم، وظهور طبقة مثّلت القاعدة الاجتماعية للنظام الاستعماري المحلي المرتبط بنوياً بالاستعمار. أما أهم تقدير وأقربه للبنية الاستعمارية و«نظامها»، فلم يتبلور تماماً إلا عند منتصف الستينيات، مع ظهور كتاب الدكتور محمد سلمان الحسن عن الاقتصاد العراقي. هذا العمل الأكاديمي هو الذي يؤرخ لاكتمال المنظور العراقي للمسألة الاستعمارية ولبنية الاستعمار البريطاني للعراق.
وبغض النظر عن الاعتراض العميق الواجب على تلك الرؤية، باعتبارها افتراضية وقائمة على تكريس منهج مستعار، إلا أنه يتوافر فيها تناول بنية الاستعمار العامة والمتفق على عناصرها الأساسية كظاهرة عالمية. إذاً الاستعمار الكولونيالي يفترض ويستوجب تغييراً في البنية الوطنية والاجتماعية «الطبقية»، وهو في جانب القوى والفئات أو الطبقات المرتبطة به عضوياً، ومن ثم سياسياً، كما يساهم حتماً في تبلور أضداده أو القوى المناوئة له، التي تمثلت وقتها بالحركة الوطنية العراقية المعاصرة كما ظهرت بعد العشرينيات من القرن الماضي، وقادت النضال الوطني ما بين 1920/ 1958 إلى أن تفجرت ثورة 14 تموز. وتقف في جبهة القوى الوطنية ووراءها بالطبع فئات وقوى وطبقات، بغض النظر عن مدى دقة حضورها أو صوابيته وأشكال تمثيلها في الصراع الذي لم يتوقف في حينه.
اليوم يتردد تعبير الاحتلال أو الاستعمار وكأنهما مسألة واحدة. ولم يحدث أن وضعت أية استدراكات، أو تحفظات من نوع ما قد جابه مثلاً المحللين عندما كانوا يضطرون للإجابة على أسباب بروز ظاهرة «المقاومة المسلحة» السريع بعد الغزو الأميركي لبغداد مباشرة. فذكرت في تفسير تلك الظاهرة آراء لا تقع في باب المعقول، مثل القول إن العراق هو بلد متحضر لهذا برزت المقاومة فيه سريعاً!! الحقيقة أن ما يواجهنا ويواجه الفكر التحرري في العالم، ليس بالأمر الهين أو العابر، مع أن معسكر الفكر والتنظير لم يبد الانتباه اللازم لظاهرة مختلفة نوعياً، ويمكن أن تكون بحاجة إلى تدقيق استثنائي.
وقد يكون من الأسباب التي حالت دون التركيز على الظاهرة المذكورة، جدتها وخصوصيتها. فالعالم اليوم لا يشهد عملية غزو وإعادة احتلال واسعة وعالمية الطابع، والتركيز بمقابل المشروع الإمبراطوري الأميركي، يجري داخل قوى مناهضة الاحتلال والعولمة، مثلاً، على قضايا عولمة الاقتصاد باعتبارها المظهر الأعم للامبريالية الراهنة. وهذه أسباب ألقت على البلدان التي تعرضت للغزو أعباءً نظرية بدت محلية ومن الصعب إثبات أنها قابلة للتعميم. ورغم كل ما يعانيه العراق، مثلاً، كبلد أعيد احتلاله، من كوارث، وتفكك في البنية الوطنية، إضافة للضعف النظري المزمن، يكاد العراقيون لا يستطيعون تأجيل البحث في قضية داهمة، مثل تعيين الفرق بين «الاستعمار» و«الاحتلال» باعتبار أن الظاهرة الأخيرة ليست نتاج بنية متحققة على مستوى العالم، وهي لم تأت من قبيل السيرورة الاجتماعية والطبقية كما حدث في عقود التغلغل الرأسمالي الأولى قبل الاحتلال العسكري الإنكليزي للعراق عام 1917.
تترتب على ذلك نظرة مختلفة لمسألة «القوى» التي تستند إليها عملية الغزو الحالية، وإلى مدى عضوية ترابطها ومتانة هذا الترابط مع مشروع الاحتلال الحالي، وصولاً لاحتمالات تمردها عليه. وكيف تفعل بقوة عوامل أخرى متداخلة مع الغزو، منها إقليمية مثلاً، مع طابع استحالة استقرار أو ثبات مشروع الاحتلال وعبثيته، مقارنة بالمشروع الاستعماري الإنكليزي، وهو ما يجسده مجمل سلوكه الذي يتسم بالخراقة وعدم العقلانية، ابتداءً من افتراض الاستقبال الشعبي بالزهور، إلى قرار حل الجيش وسحق الدولة القائمة، والإسهام العمد في إنشاء جيش هائل من المعادين المستعدين للموت بمواجهته، مع كل ما يمتلكه العراق من خبرات عسكرية، وأسلحة وتراث وطني غني، وقد تحول الجيش إلى قوة غير نظامية قادرة على الفعل بمستوى أعلى وأرفع وهو غير نظامي، وصولاً، مع تعطيل الاقتصاد والدولة والاعتماد غير المؤكد على بنى وقوى سابقة على وجود الدولة الحديثة، إلى التسبب في إنماء آليات إعادة تشكّل وطني جديد مضاد، بدأ يسير صعداً الآن وسريعاً.
كل هذا يضعنا أمام شبكة من المفاهيم والتقييمات نابعة من الحالة لا من المقارنة على إرث، وسرعة المتغيرات وتحولات الموقف الاجتماعي والسياسي ومفاجآته، تستدعي رؤية المشهد وسرعة تحولاته اعتماداً على منظور «الاحتلال الافتراضي»، باعتبار الافتراضية لا البنية الرأسمالية الاستعمارية الشاملة هي التي تمثّل الخلفية المهلهلة للاحتلال الأميركي للعراق منذ عام 2003. الافتراضية العسكرية كما نُفّذ الغزوُ خططاً وأداءً، مشفوعة بالافتراضية الاقتصادية والسياسية. هنا نعثر على قضية نظرية جادة ويتوقف عليها الكثير على مستوى مسارات العراق وشكله المقبل، والعلاقات بين قواه وسبل استعادة لحمته، منذ الغزو، وتحديداً منذ الآن إلى أن يغادر الجندي الأميركي الأخير أرض الرافدين.
* كاتب عراقي