كامل جابر
لا يقتصر تأثّر كريستيان غازي برائدَي السينما التسجيليّة دزيغا فيرتوف وسيرجي أيزنشتاين على المجال السينمائي، بل يتعدّاه إلى انخراطه الميداني في تجاربه السينمائية من خلال التصاقه بالثورة الفلسطينية أواخر الستينيات، ومشاركته في أعمال المقاومة فيما كانت عينه تلاحق المقاتلين وتسجِّل المعارك الحية. وإذا كانت اللعنة قد لاحقت شريط أيزنشتاين «المدرّعة بوتمكين» (1925) الذي تعرّض للمنع والتقطيع طوال 25 عاماً، فإنّها لم توفّر أيضاً أفلام كريستيان غازي: نيغاتيف أعماله التسجيلية والوثائقية أكلتها النيران تارةً بقرار من السلطة اللبنانية، وطوراً بقرار من الميليشيات.
في أنطاكيا، ولد عام 1934، من أب لبناني، وأم فرنسية. بعد خمس سنوات، حطّ رحاله في المدرسة اليسوعية في بيروت التي كانت تحظِّر على تلامذتها النطق بكلمة عربية، ثم دخل جامعة الـ«ألبا» طالباً يدرس الموسيقى تأليفاً وكتابة. لكنّه سرعان ما توجه إلى الإخراج السينمائي، فجال على المدارس السينمائية بين ميونيخ وفرنسا وروسيا.
توظف في «تلفزيون لبنان والمشرق» (دُمج عام 1977 مع «شركة التلفزيون اللبنانية» ليصير «تلفزيون لبنان») حيث تولّى الأفلام الوثائقية. وأولى أعماله التسجيلية كان «راشانا» (1961) عن النحّات ميشال بصبوص. في عام 1964، طلبت إليه وزارة السياحة إعداد سلسة أفلام وثائقية تهدف إلى تشجيع السياحة في لبنان. «انتهيتُ من الأفلام. قالوا إنّ لجنة مراقبة ستشاهدها. اللجنة كانت من المكتب الثاني، شاهدت الأفلام واتخذت قراراً بحرقها: 12 فيلماً أُحرقت عند باب التلفزيون أمام عينيّ». لماذا؟ لأنّ كريستيان صوّر مثلاً فلاحاً مع بقرته في الحقل، وأناساً داخل «كازينو لبنان». ثم وضع صوت الفلاح على صورة الكازينو، وضجيج الكازينو على صورة الفلاح!
«غرامه» بالقضية الفلسطينية جعله ينتج الفيلم الأول عن الثورة عام 1967. إنّه «الفدائيون» الذي استوحاه من مسرحية «الأمّ الشجاعة» لبريخت. يحكي الشريط قصة أم فلسطينية تُطرَد من أرضها، فتقرر أن تقدم أبناءها فداءً للوطن. يومها، لم تكتفِ الرقابة بمنع نيغاتيف الشريط، بل أصدرت حكماً غيابياً بسجن صاحبه 15 يوماً؛ فيما عدّ ياسر عرفات الشريط «هزيمةً بحد ذاتها».
يعود تعلّق كريستيان بالقضية الفلسطينية إلى 1948 «عندما كان والدي قائد الجبهة الجنوبية في الجيش اللبناني، وهو الجيش العربي الوحيد الذي دخل 14.5 كيلومتراً داخل الأراضي الفلسطينية وحرّر مناطق من الهاغانا. يومها، كنتُ في الـ14 من العمر ولم أكن أجيد اللغة العربية بحكم تربيتي في المدرسة، إضافة إلى أنّ أمي فرنسيّة. مشيت على خطى والدي وأثّرت فيّ قصة التحرير». بعد إحالة والده على التقاعد عام 1954، كافأه وفد شيوعي صيني على عطاءاته بهدية، هي الكتابات الكاملة المترجمة لماو تسي تونغ. «قرأتها وأُعجبتُ بالحزب الشيوعي الصيني، ثم لاحقاً بماركس».
في عام 1968، التحقَ بـ«الجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين» وصوَّر فيلم «مئة وجه ليوم واحد» الذي حصد جائزة لجنة التحكيم في «مهرجان السينما البديلة» في دمشق (1972) لكن عبد الحليم خدام صعد يومها إلى الخشبة وانتشل الجائزة من كريستيان، مشيراً إلى أنّه لا يستحقّها!
في مطلع السبعينيات، انخرط كريستيان في العمليات الفدائية، يقول: «شاركتُ في 21 عملية، كنا نتسلل عبر الحدود اللبنانية إلى فلسطين. حينها، كنت متزوجاً وزوجتي مادونا ناضلت إلى جانبي». أما أقرب الناس إلى قلبه وعقله، فكان جورج حبش. هذا الأخير أنقذه حين تعرض كريستيان للضرب على أيدي «المرابطون» الذين سرعان ما صالحوه بتسليمه النشرات الفرنسية والإنكليزية في إذاعة «صوت لبنان العربي» (1983). بعدها، اشتغل في إذاعة «صوت الشعب» (1985)، مديراً للنشرة الفرنسية مع زوجته وبقيا 10 سنوات ثم خرجا «غاضبين»!
فنياً، تلقى كريستيان الضربة القاضية عام 1983، إذ أحرقت عناصر مسلّحة في محلة بربور نيغاتيف كلّ أفلامه. «كانت 43 فيلماً أُحرقت بكاملها وتدفأوا عليها. بعدها توقّفت. كانت صدمة أن تشتغل كل حياتك منذ 1960 ثم يأتي أحدهم، وبمنتهى البساطة يحاول أن يتدفأ على تعبك وجهدك. كنت أنتظر أن تنتهي الحرب حتى أطبعها».
هذه الأفلام كانت عن الفقراء والمساكين، عن الفدائيين والمقاتلين ومزارعي التبغ والفلاحين «عن المهجّرين الذين هربوا من مناطق بؤسهم إلى مخيمات الصفيح في برج البراجنة وغيرها. رضُوا بالعيش تحت الخراب والتعتير والبهدلة، وكنت أنزل في معظم الأحيان بمفردي، لأصوّر عنهم أفلاماً طويلة». لم ينجُ من هذه الأفلام سوى «مئة وجه ليوم واحد» الذي كان حينها في «المؤسسة العامة للسينما» في سوريا. أما الأفلام الباقية فاحترقت وضاع بعضها الآخر، من بينها «لماذا المقاومة» الذي يحتوي على حوارات مع قادة فلسطينيين، مثل غسان كنفاني وإبراهيم العابد، و«الوجه الآخر للاجئين». وعن الحرب اللبنانية، يذكر «الموت في لبنان» الذي «نفّذته بطلب من الجبهة الشعبية»، و«كانت هناك نسخة منه في بغداد بعدما وضع صدام حسين اليد عليها» وثلاثية وثائقية عن جذور الأزمة اللبنانية وأربعة أفلام تسجيلية عن ظروف النازحين بسبب الحرب الأهلية...
بطلب من «نادي لكل الناس»، عاد كريستيان وراء الكاميرا عام 2001 ليُنجز شريط «نعش الذاكرة»، يقول: «وعدوني بنسخة من فيلمي «مئة وجه ليوم واحد» وهو أهم أعمالي، لأنه يمثّل وجهة نظري، ونوعاً من بياني السينمائي. قالوا إنّهم سيحضرونها من الشام، شرط أن أصنع لهم فيلماً، وافقتُ. وقد صدقوا بوعدهم». اليوم، «يقيم» كريستيان غازي في مقاهي الحمرا «أنا غير معترف بي هنا، لا سينمائياً ولا من يحزنون. مُنعت من التدريس في الجامعة لأنني لا أحمل بطاقة وساطة من زعيم سياسي».


5 تواريخ

1938
الولادة في أنطاكيا (سوريا حينها)

1967
صوّر «الفدائيون»، وهو الشريط الروائي الوحيد عن العمل الفدائي.

1972
فاز فيلمه «مئة وجه ليوم واحد» الذي يعدّه «بيانه السينمائي» بجائزة لجنة التحكيم في «مهرجان السينما البديلة» في دمشق.

1983
أحرقت عناصر مسلحة نيغاتيف كلّ أفلامه في منزله البيروتي

2009
يكرّمه «نادي لكل الناس» عند الثامنة من مساء اليوم في «مسرح بيروت»، ويعرض آخر أعماله «نعش الذاكرة» (2001). ثم يعرض غداً الخميس فيلمه «مئة وجه ليوم واحد» يقدّمه المسرحي جلال خوري