أرتوزيا هي مدينة أثريّة مزعومة»، هذا ما صرّح به البعض في الأسابيع الماضية. لكن، في الواقع، تلك المدينة كشفت القليل القليل من آثارها خلال التنقيبات الأثرية، فأتت لتثبت أنها «مدينة رومانية ضخمة جداً بخصائص جديدة على لبنان». لذا، وبمعزل عن الجدال السياسي القائم، هذه المعالجة
جوان فرشخ بجالي
يعمل فريق من علماء الآثار على موقع نهر البارد منذ أشهر عدّة لكشف أهمية الآثار وواقعها. وقد جرى التنقيب على مساحة لا تزيد على ألف متر مربع، وأبرزت المعالم الأثرية الدفينة في الطبقات العليا منها. فعلى عمق لا يتجاوز سنتمترات من مستوى الأرض، اكتشف العلماء، الذين يعملون تحت إشراف المديرية العامة للآثار، شبكة ضخمة لمجاري مياه الشفة.
وتمتد القساطل المصنوعة من الطين على مساحات واسعة من الموقع بحسب تخطيط هندسي معقد. فالقساطل العليا كانت تغطيها طبقة سميكة مصنوعة من الكلس، ما يؤكد أن المياه التي تجري فيها كانت ذات ضغط عالٍ. وهذه هي المرة الأولى في لبنان التي تكتشف فيها شبكة مياه تعود إلى الحقبة الرومانية، التي تتميز بتخطيط معقّد كهذا. ففي مدينة صور، مثلاً، شبكة جر المياه كبيرة، تستجيب لمطالب المدينة المترامية الأطراف، ولكن قساطل مياه الشفة لم تكن مغطاة بمثل هذه الطبقة.
وقد اكتشف العلماء بعضاً من خزانات المياه التي تعود إلى تلك الفترة. وتؤكد الاكتشافات أن المدينة الدفينة كانت في الفترة الرومانية مركزاً مهماً يعرف كثافة سكانية عالية. فالمكان الذي يعمل على تشييد بنية تحتية بهذه الضخامة والتعقيد هو مدينة تعج بالحركة وليست مركزاً بسيطاً يقطن فيه بعض السكان. ومعروف عن المدن الرومانية الكبيرة أنها كانت تحوي حمامات عامة (يتطلب تشغيلها شبكة مياه ضخمة)، وخزانات لتأمين مياه الشفة صيفاً، ومعابد، وملاعب، ومدرجات، وساحة عامة، وطرقات معبدة وبيوتاً مرصوصة ومقابر... فهل يمكن أن تكون تلك الآثار كلها دفينة في موقع تل البارد؟ هذا ممكن جداً، لأن التل الأثري (الذي شيّد فوقه في الخمسينيات من القرن الماضي مخيم اللاجئين الفلسطينيين) يمتد على مساحة تزيد على 170.000 متر مربع. وينطبق على هذا التل مبدأ التلال الأثرية، أي التي ترتفع عن سطح البحر لبضعة أمتار، هي في الحقيقة طبقات أثرية تخبر كل واحدة منها عن حقبة وحضارة ما. لكن الحفريات في البارد لم تذهب بعيداً في الأرض لتبرز الامتداد التاريخي للمدينة. وتأتي هذه الاكتشافات في الطبقات العليا لتؤكد النظريات العلمية التي تناقلها علماء الآثار بعد اكتشاف أعمدة الغرانيت، في نيسان الماضيفمدينة أرتوزيا معروفة في السجلات الرومانية كونها مركزاً لتبديل الحيوانات على طرق القوافل المسافرة بين مدينتي القدس وبوردو الفرنسية. ففي الفترة الرومانية ازدهرت التجارة في حوض المتوسط ازدهاراً غير مسبوق، وتقلصت المسافات بين المدن التي ربطتها بعضها ببعض شبكة طرق معبدة، عمل الأباطرة الرومان على إتمامها وتأمين سلامة المسافرين عليها. فكانت رحلات القوافل بلا انقطاع طوال السنة، وكان التجار يسافرون في النهار من مدينة إلى أخرى، ويتوقفون في نقاط قد تكون مدناً كبيرة أو صغيرة لتبديل الحيوانات، فيبيتون الليل هناك. وكانت أرتوزيا إحدى تلك المدن في سهل عكار، وتعرف «بتبديل بروتوس»، وقد اعتبر المؤرخون، مثل ريني دوسو الذي رأى بعضاً من آثارها في بداية القرن الماضي، أن المدينة قد تكون ذات أهمية ثانوية لكونها لم تصكّ عملاتها حتى القرن الأول بعد الميلاد». ولعل الحفريات الأثرية تغيّر هذه النظرية، إذا ما بدا أن المدينة متمادية الأطراف. وقد عرف عن تلك المدينة أيضاً أن لها معبداً لعشتروت آلهة الخصوبة، وهو خاص بها وقد صوّرت واجهته على عملات المدينة. ليست أرتوزيا بالطبع الموقع الأثري الوحيد في سهل عكار، فتل عرقة لا يبعد عنها سوى مئات قليلة من الأمتار، لكن موقعها الاستراتيجي كمدينة بحرية يميزها عن تل عرقة، ويعطيها دوراً تجارياً أوسع. فعرقة، وقد أثبتت الحفريات الأثرية أنها ليست إلا قرية صغيرة، عرفت امتداداً في الفترتين الرومانية والبيزنطية. أما أرتوزيا فمدينة مذكورة في رسائل فراعنة مصر، وعلى الأرجح أن الإنسان سكنها منذ بدء الاستيطان، أي قبل 7000 سنة.
تاريخ هذا الموقع ليس موضوع شك، ولا يجب أن يصبح كذلك، فهذا بمثابة أكاذيب. أما مصيره فهو موضوع مسيّس، معقّد. في الأثناء، بدأ السياسيون يتحدثون عن «مبدأ طمر الآثار بحسب الأصول العلمية والعالمية». وهذه الجملة ليست دقيقة علمياً. فعمليات الطمر المعترف بها علمياً لا تتم على موقع أثري بأكمله. طمر الآثار يتم حينما تكون الآثار في خطر أو يتعذر المحافظة عليها. وأولى خطوات الطمر تغطية الآثار بطريقة تزيل الخطر عنها، بعد تحديد مكانها على الخرائط، والتأكد من طرق إزالة الطمر بشكل سليم، في ما بعد. وهذه الطرق معتمدة لآثار غالباً ما تكون جزءاً من موقع، كغرفة، أو أرضية فسيفساء... إنما طمر تل أثري بأكمله فذلك ليس مبدأ علمياً معتمداً عالمياً، بل هو مبدأ خاص بلبنان.
■ في سياق متصل، صدر القرار غير الرسمي لمجلس شورى الدولة في موضوع الدعوى التي تقدم بها المواطن ميشال عون للطعن بقرار مجلس الوزراء القاضي بطمر الآثار في الجزء القديم في مخيّم البارد. وقد رفض القرار دعوى المواطن عون لأنه تبيّن نتيجة دراسة الملف أن الصفة والمصلحة غير مباشرتين، أي إن عون ليس لديه مصلحة مباشرة للطعن بقرار الحكومة وقد ردت شكلاً لمجلس الشورى.