حسان الزينسواء أكانت القوّات اللبنانيّة هي من فاز في الانتخابات الطالبية في الجامعة اليسوعية أم لا، فإنها كما يُقرأ من غير محطة ومناسبة وحالة وتمظهر وموقف وتصريح، باتت أشبه باستراتيجيّة دفاعيّة في مواجهة حزب الله، وهي انعكاس مذهبي لتوازن الرعب. فوجود حزب الله، بالتأكيد، يسهم في تجديد القوات على ما تنحو إليه، لكنّ للقوّات اللبنانيّة الموجودة قبل حزب الله دوراً في تجدّدها المشابه لحزب الله ولنفسها، سواء أكان في التنظيم «الحديدي» الذي يجد له يوميّاً عصباً، بل أعصاباً تشدّه وتجذب الشباب إليه، أم في علاقته بالكنيسة، نظير ولاية الفقيه عند حزب الله، التي تجعل حزبيي القوات، مقاتلي الكنيسة، يذكّرون بفرسان الهيكل.
كما كرة القدم كذلك السياسة، يلعبها الفقراء، يشاهدها متوسّطو الحال وأشباههم، ويستفيد منها الأغنياء. مرّة أخرى، مع القوات اللبنانية، تثبت السياسة (اللبنانيّة) أنها كذلك، وتثبت الطائفية أنها الإطار «الأمثل» لنجاحها في تطبيق هذه المعادلة، بل استثمارها إلى أقصى الحدود وأقساها، إلى ما يُنتج أحزاباً يلعب فيها الفقراء كما يلعب المتهوّر والمغامر مع الموت، ويشاهدها متوسّطو الحال مكتوفي الأيدي، مستسلمين أو ممتعضين، ويستفيد منها الأغنياء، محدثون أو إقطاعيون.
هذا بالضبط ما يجعل التيار الوطني الحر، الذي يقوم على متوسّطي الحال في البيئة ذاتها مع القوّات اللبنانيّة، يُخفق مرّة تلو الأخرى في «تنظيم» حزبه، ويبقى ميشال عون، شخصاً وشعاراتٍ، عماد ذاك التيار وعصبه شبه الوحيد. فيما تبدو القوات، التي لطالما جاهر قائدها بمعارضته الأنظمة الشمولية وأحزابها الأيديولوجية من الاتحاد السوفياتي إلى إيران وسوريا، تستعيد كالصاروخ تنظيمها القوي على أسس قتالية، أيديولوجياً وسيكولوجياً.
ليس غريباً في لبنان الطائفي، وفي غيره من البلدان والمجتمعات، أو التجمعات، أن يحصل ذلك، أي تشابه المتناحرين. لكنّ الغريب أن يُغلّف ذاك الحزب المتجدّد، وأي حزب مماثل، بلبوس وشعارات عصرية. وبدلاً من تقديم سمير جعجع وقواته حزباً ديموقراطياً نقيضاً لما يعارضانه سياسياً، أي حزب الله والأحزاب الشمولية، يُعيدان إنتاج حزب «ديني» هو في شكل من الأشكال آلة لتوازن الرعب في مواجهة حزب الله، كأنها تستعدّ بما أوتيت من قوّة للمواجهة الكبرى، أو لمواجهات أخرى أقرب ما تكون بروفات للحرب المقبلة التي يُوعد بها اللبنانيون يومياً. هذا، والبلد يختنق بالأحزاب الوهمية والأحزاب الهشّة، التي هي ليست إلا عباءات للزعماء وعائلاتهم.
ليس شكلياً وأمراً تافهاً ألا يخرج من القوّات اللبنانية كلامٌ يشير إلى فكرة تغيير اسمها القتالي الحربي، وهي التي أُسست عشية الحرب لتكون اليد القتالية الحربية لأحزاب الجبهة اللبنانية التي توحّدت بندقيتها بالقوّة والدم. فهذا، أي تغيير الاسم أو التفكير العالي الصوت فيه، كان ليدلّل إلى اتجاه مغاير في البناء الحزبي والتوجه السياسي. والقوّات قادرة على ذلك، ولا سيما مع وجود قائدها وحتى عَلمِها الذي بات مصنّفاً تجارياً محميّاً قانوناً. وقد بادر قائد هذه القوّات إلى خطوات عدة في طريق تقويم التجربة الماضية ونقد سلوكات وسياسات مورست إبان الحرب التي هي أساساً، عقليّة قبل أن تكون متاريسَ وقتالاً، رحمُ القوّات، ما يوجب على القوات تعميق القراءة النقدية إلى ما بعد السلوكات والسياسات، إلى المستوى الأيديولوجي والسيكولوجي الذي تنهل منه القوات وتتحرك في إطاره.
هذا ليس جلداً إضافياً للقوات التي دفعت وقائدها ثمن أحزاب الحرب وأمرائها على الجبهات كلها، بقدر ما هو نقد للتجدّد الناقص والمثقل بالتاريخ والمأخوذ بآليات الماضي، سواء أكانت قتالية أم عقائدية، وسواء الموجودة لدى القوات نفسها أم لدى الأحزاب المذهبية الأخرى، وتحديداً حزب الله. إذ في ما يبدو، القوات اللبنانية تُبنى بكونها استراتيجية دفاعية مواجِهة أو مناظِرة لحزب الله ذي الاستراتيجية الدفاعية المناقضة.
المقاربة هذه لا تأخذ أبداً بالبروباغندا التي تُشنّ على القوات، تحت جنح الكلام، بأنها تتسلّح وتدرّب عناصرها، ولا تساجل في التوجه السياسي للقوات. المقاربة تتحرك في مساحة التجدد السياسي الحزبي للقوّات. ومن العقل أن نفعل ذلك، كما من حق القوات التي لا جهة سياسية مذهبية لبنانيّاً أفضل منها. كلها في الهواء سواء. لكن، في المقابل، إن خطاب سمير جعجع بعد السجن لم يتمدّد في القوّات وقواعدها وآليات عملها وتنظيمها. كأن جعجع أجرى مساومة مع القوّات القديمة أكثر منه قادها إلى خلاصاته السلمية، في أمور المجتمع والدولة، سياسياً وفكرياً. وثمة ما يشير إلى أن جعجع، أقلّه على مستوى قراءة كلامه بعد السجن وتجربته الشخصية والسياسية، لا يطابق مئة في المئة القوات التي «نشاهدها» اليوم. فجعجع يبدو أكثر سلميّةً وسياسيّةً من قوّاته، في الوقت الذي تبدو فيه القوات وسيلة ابنة اللحظة لتلبية سياسة جعجع. وهذا تناقض لا تنفرد به القوّات بقدر ما هو وجه شبه بينها وبين القوى والأحزاب المذهبية المختلفة، ولا سيما منها «الذكية»، على وزن القنابل الذكية.