التقيناه في بيروت، في مؤتمر «إسرائيل والقانون الدولي»، الذي عقده مركز «الزيتونة». بدأ الأمر بالبروفسور الهولندي قانونياً منكبّاً على الدراسة، وانتهى محاضراً جامعياً، ومختصاً بالصراع العربي ــ الفلسطيني. على ذمة دي فارت: «يحق للفلسطينيين العمل المقاوم، ولكن وفقاً للقانون الدولي»
أعدها: محمد نزال
ابتسم البروفسور المتمّرس في القانون الدولي، في جامعة أمستردام، بول دي فارت، مرحّباً بطلب «الأخبار» إجراء مقابلة معه. جاء حاملاً فنجان قهوته، وجلس على كرسيه قائلاً: «حسناً، فلنبدأ». بدا إيجابياً منذ البداية. تعود علاقة البروفسور الهولندي بالقانون إلى خمسينيات القرن الماضي. درس بول دي فارت القانون في جامعة أمستردام، في الفترة التي تلت انتهاء الحرب العالمية الثانية. لم يكتفِ بالقانون وسيلة للبحث عن العدالة، فعمل بعدها صحافياً في إحدى الجرائد المحلية في بلاده، قبل أن يعود ويعمل في وزارة الخارجية الهولندية. أصبح دبلوماسياً، متسلّحاً بالقانون في يد، والعلاقات التي اكتسبها في يدٍ أخرى. وبعدها، انطلق إلى الخارج، واستقر شغفه في دراسة الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي.
يفاجأ دي فارت عندما نسأله عن العدوان الأخير على غزة. في رأيه، ما جرى هناك هو «ارتكاب لجرائم حرب من قبل إسرائيل، بحسب تعريف ميثاق روما». هكذا، ببساطة، يجيب دي فارت على سؤال عن نظرته إلى سلوك إسرائيل وعدوانيتها. يذهب القانوني أبعد من ذلك. يحرّك يديه بطريقة عفوية، مؤكداً أنه وثّق آراءه هذه بالتقارير التي قدّمتها اللجنة، التي رأسها المقرر السابق للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في فلسطين، الدكتور جون دوغارد، والتي كان دي فارت عضواً فيها.
«لا مكان آمن»... في غزّة. يتابع دي فارت، كأنه مصرّ على توثيق الموت الفلسطيني. أثّرت فيه تلك العبارة، التي حملها التقرير عنواناً، لكونها تختصر على بساطتها حجم المآسي لما رآه هناك بأمّ عينه. يقطّب دي فارت حاجبيه مدهوشاً من العبارة التي يلفظها، علماً بأنه شارك شخصياً في وضعها. تجاوز عدد الشهداء في «الرصاص المصهور» 1400 فلسطيني، بما في ذلك ما لا يقل عن 850 مدنياً، و300 طفلا و110 نساء، كذلك تجاوز عدد الجرحى 5000 فلسطيني. لم تستطع اللجنة قبول الأرقام التي قدّمتها إسرائيل، التي «تزعم أن عدد الوفيات من المدنيين لم يتجاوز 295 قتيلاً فقط، لأنها لا تذكر أسماء المتوفين، على خلاف المصادر الفلسطينية». فضلاً عن ذلك، يضيف دي فارت، فإن إسرائيل «تحسب رجال الشرطة ضمن المحاربين، بينما ينبغي اعتبارهم من المدنيين، وتؤكد أن الأطفال دون السادسة عشرة فقط هم الذين يجوز اعتبارهم أطفالاً، بينما السن المقبولة دولياً للأطفال هي الثامنة عشرة». استمع دي فارت وباقي أعضاء اللجنة، أثناء وجودهم في غزة، إلى «قصص مزعجة عن القتل بدم بارد للمدنيين بواسطة القوات الإسرائيلية، وقد أكدّ هذه القصص فيما بعد جنود إسرائيليون في الكلية العسكرية بأورانيم».
قبل هذه الرحلة المؤلمة للمحاضر الأكاديمي الهولندي إلى غزة، كان قد ألّف كتاباً بعنوان: «سبل تقرير المصير في فلسطين‏:‏ حماية الشعوب كحق إنساني»، وهو الأمر الذي يعكس اهتمامه بالقضية الفلسطينية أساساً. ولاحقاً، شارك في العديد من الفعاليات القانونية المتعلقة بالصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، كذلك عمل في العديد من مؤسسات التعاون التنموي وحقوق الإنسان. قدّم أطروحته في الدكتوراه عن الحل السلمي للنزاعات بين الدول، وذلك في عام 1971. ويحاضر حالياً في العديد من الجامعات، معظمها ليس في الغرب.
يؤمن دي فارت، كالكثيرين من الحقوقيين الغربيين، بإمكان تحصيل الحقوق من خلال «العدالة الدولية». بيد أنه لا ينفي إمكان تدخّل السياسة في الأمر، ما يمكن أن يؤدي إلى إفساده. بعد تقديم تقرير «لا مكان آمن» في غزّة، طلب دعم جامعة الدول العربية لضمّ فلسطين إلى اتفاقية روما: «يجب أن تؤخذ الحقوق بالقانون، لأن في السياسة لا أحد يقدر على فعل شيء، وبالتالي يمكن بعدها إصدار عقوبات في حق إسرائيل».

آلمه سماع قصص «مزعجة» عن قتل الإسرائيليين للمدنيين الفلسطينيين بدم بارد

لا يرى إمكاناً للسلام إذا لم تحترم الولايات المتحدة الحقوق القانونية للفلسطينيين


ينتقد المختص في القانون الدولي بعض التصرفات من قبل الأمم المتحدة، وبعض الدول الغربية، وتحديداً أميركا. لا يرى أي إمكان لقيام سلام في منطقة الشرق الأوسط «ما دامت الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية لا يأخذان في الاعتبار أن مصالح الفلسطينيين يحميها القانون الدولي».
وفجأة، تظهر علامات الانزعاج على ملامح وجهه الثمانيني، عند سؤاله عن المغالطات «والكيل بمكيالين» من قبل المجتمع الدولي في تطبيق القانون. يعترف بوجود مشاكل في القانون الدولي. يستشهد بأن السفارات الفلسطينية «تجري حمايتها ورعايتها من خلال القانون الدولي، وأن عدم الاعتراف بفلسطين يتناقض مع واقع الحال». ماذا عن الجدار الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية؟ يعلن دي فارت بوضوح: «هو أيضاً، وفي معزل عن جدلية توفير الأمن لإسرائيل من عدمه، فهو غير شرعي وفقاً لكل القوانين الدولية، لأنه أقيم على أراض داخل حدود 1967. وبالتالي فهو داخل الحدود الفلسطينية من الناحية الفعلية».
كان لافتاً أن دي فارت يستخدم عبارة «الأراضي المحتلة» كثيراً، ولكن بعد الاستفسار عن قصده من العبارة، لمعت عيناه كأنه فطن إلى أمر ما. لفت إلى أنه يعني بعبارة الأراضي المحتلة تلك المناطق المحتلة في الضفة الغربية وغزّة فقط. البروفسور الهولندي ليس مؤمناً بـ«فلسطين من البحر إلى النهر» كما توحي عبارة الأراضي المحتلة عند العرب عادةً.
ماذا عن المقاومة في فلسطين؟ وماذا عن استخدام الكفاح المسلح في ضوء القوانين الدولية؟ لا يجد دي فارت حرجاً في الحديث عن ذلك، فيقول «يحق للفلسطينيين ممارسة العمل المقاوم، كما يحق لأي شعب، إذا احتُلت أراضيه، وهذا ما تنص عليه القوانين والأعراف الدولية». لكنه يدعو المقاومين الفلسطينيين إلى عدم إطلاق الصواريخ بـ «عشوائية»، وأن يستهدفوا «الأهداف العسكرية فقط، من دون المدنية». تختلف المعايير بالنسبة إلى المقاومة اللبنانية. يتردد دي فارت في الحديث عنها، ويتجاهل السؤال بداية. ثم ما يلبث أن يستدرك «يحق للبنان المقاومة، والدفاع عن نفسه»، لكنه بدا كمتابع للشأن اللبناني من خلال إشارته «في لبنان، يجب أن نرى ما إذا كانت المقاومة منطلقة من الدولة أو من سواها. لكن في كل الأحوال، في ظل قيام مقاومة في لبنان، يجب ألّا تكون كتنظيم القاعدة، أي عليها ألا تحارب في بلدان أخرى"».


يحاضر البروفسور بول دي فارت في العديد من الجامعات حالياً، ومنها جامعات في أثيوبيا والصين. وتتمحور المحاضرات التي يلقيها حول قضايا حقوق الإنسان والقانون الدولي وقانون الاقتصاد الدولي. ترك مهنة الصحافة، وركّز على الأبحاث الأكاديمية أخيراً، وهو يُعدّ من أبرز المتابعين القانونيين للصراع الدائر في الشرق الأوسط، وله عدة مؤلفات أهمها: سبل تقرير المصير في فلسطين‏:‏ حماية الشعوب كحق إنساني.