إيلي شلهوبتشهد الساحة الفلسطينية هذه الأيام حدثاً هزلياً، يحاكي أفلام الصور المتحركة الخاصة بالأطفال. يزعم أبو مازن أن شهوة السلطة ما عادت تغريه، وأنه فقد الرغبة في تولي الرئاسة مجدداً. يقول إنه محبط وتعب ومتشائم. ألعوبة طفولية لا قيمة لها سوى أنها تبعث برسالة يمكن ترجمتها إلى لغات متعددة.
النسخة الإنكليزية: صدّقتكم وخدعتموني، وها هو معسكر السلام الفلسطيني الذي أمثّله على مشارف الانهيار، فأغيثوني كي يبقى حيّاً.
النسخة العبرية: أكثرتم من حشري في الزاوية، وها أنا أغرق وليس من قشة أعوم عليها. إذا حصل ذلك فستجدون أنفسكم مع غزة ثانية في الضفة.
النسخة العربية (المعتدلة): رحلة «التعرّي» بدأناها معاً، ولا بد من أن نكملها معاً. لقد أفلست، وبحاجة إلى دعمكم فأنقذوني.
النسخة الفلسطينية: ارتكبت من الأخطاء ومارست من الفجور ما يكفي لبلوغ الحضيض. لعبت الأوراق كلها ولم تنفعني، وأحتاج إلى من يخلّصني من عبء التعهدات التي اتخذتها على نفسي. وا فتحاه؟
شعرتان قصمتا ظهر محمود عباس: موقفه من تقرير غولدستون، وتراجع إدارة أوباما عن اشتراطها وقف الاستيطان لاستئناف المفاوضات. الملف الأول استُنفدت مفاعيله الداخلية الفلسطينية؛ طارت المصالحة المزعومة (بغض النظر عن الألاعيب التي جرت ومن يتحمل مسؤوليتها)، وتعرضت شرعية عباس لمزيد من التهشيم.
أما الملف الثاني، فلا يزال إخراجه غير مكتمل على الجانب الفلسطيني، وما مسرحية أبو مازن سوى حلقة من حلقاته، خلافاً للوضع في واشنطن، حيث اقتنع صنّاع القرار بصعوبة الإبحار في ملف التسوية، وبأن نظرية «أننا أحرص عليكم من أنفسكم ونعرف مصلحتكم أكثر منكم» لم تجد نفعاً مع حكام تل أبيب.
اقتناع جاء التعبير عنه بعنوانين: الأول، رسالة أميركية واضحة للفلسطينيين تفيد بأننا لم نتمكن من أن ننتزع من الإسرائيليين سوى تجميد مؤقت يستثني القدس و3000 وحدة استيطانية، وعليكم أن تكتفوا بذلك. أما الثاني فجاء بمثابة إقرار بلا جدوى لقاءات القمم واتجاه بالعودة إلى اجتماعات على مستويات منخفضة مع حركة بطيئة تعرف بـ«خطوات الرضيع».
ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها واشنطن إلى تكتيك كهذا، فقد جُرب في بداية التسعينيات. كذلك الأمر بالنسبة إلى التكتيك الأول الذي اعتمده أوباما والقاضي بالتوصل إلى تسوية دفعة واحدة لكل الملفات العالقة (منطق أنابوليس) عبر مفاوضات على مستوى القمة. هناك أيضاً تكتيك «خطوة خطوة» الذي اعتمده كيسنجر في السبعينيات (اتفاقات ثنائية ومسارات منفردة). وهناك تكتيك الخطوات المتزامنة على مراحل ملامحها النهائية محددة سلفاً (منطق خريطة الطريق).
بهذا المعنى تصبح الحجة التي يتداولها البعض بأن أوباما كان يتوقع شيئاً وفوجئ بآخر بلا معنى ولا مبرر لها سوى أنها تسعى إلى تبرئته وإضفاء بعض الصدقية على نياته، ذلك أن الإدارات المتعاقبة تتعاطى مع هذا الملف منذ النكبة (أول مبادرة سلام قدمتها تعود إلى عام 1955) وقد جربت التكتيكات كلها تقريباً وتعرفها عن ظهر قلب كما تعرف الأطراف المعنية. إلا إذا كان أوباما أغبى من بوش.
أما الذين فوجئوا إلى حدّ الحديث عن طعنة أو خيانة أميركية، فهؤلاء قد خُدعوا مرتين. الأولى، عندما صدقوا كلام أوباما يوم عيّن جورج ميتشل في منصبه بعد أيام من توليه الرئاسة، ويوم خطب في إسطنبول والقاهرة. وقتها خيّل للبعض أن الرئيس الأسود هذا يختلف عن سابقيه بالجوهر، لا بالأسلوب فقط، وأنه يريد «تغيير» طبيعة العلاقة مع العالم الإسلامي (اقرأ العالم العربي). والثاني عندما ظنوا أن اهتمام أوباما بملف التسوية اهتمام مجرد من أي خلفية، وأن السلام الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي يمثّل أولوية إدارته في المنطقة. لم يدركوا أن هذا الملف وغيره (انفتاح على سوريا) ليس سوى درجة في سلم يقود إلى... إيران.
مهما يكن من أمر، فإن إدارة أوباما قد عادت إلى تكتيك «خطوات الرضيع»، الذي تُعدّ طهران صاحبة المدرسة الأعرق في اعتماده منذ ثورة 1979، مع فارق جوهري طبعاًً؛ الرضّع في المدرسة الأميركية أمضوا عقوداً فيها ولا يزالون لا يحسنون المشي، على ما أقرت واشنطن. في المقابل، فإن أطفال المدرسة الإيرانية أصبحوا رجالاً أشاوس مرهوبي الجانب. حزب الله لا شك في أنه النموذج. كذلك الأمر بالنسبة إلى «حماس». وهناك بالتأكيد «منظمة بدر» والتيار الصدري، الذي يمضي زعيمه مقتدى هذه الفترة من حياته في إيران حيث يتعلم أصول الدين وفنون السياسة، فيما ذراعه العسكرية (جيش المهدي) تخضع لإعادة بناء، لا أحد يعلم الشكل الذي ستتخذه عند استكمالها.
وأخيراً ظهر طفل جديد، تسارع نموّه خلال سنوات أصبح خلالها رقما صعباً في المعادلة الخليجية: الحركة الحوثية، التي يبدو واضحاً أنها تتلقى دعماً عسكرياً ومالياً منقطع النظير (رغم نفي طهران والحوثيين)، وإلا فكيف يمكن تفسير عجز الجيش اليمني عن حسم المعركة معها خلال أكثر من أربعة أشهر من القتال الضاري رغم الدعم السعودي الذي يتلقاه. ولعل ذلك ما دفع الرياض إلى أن تدخل الحرب بنفسها، على الأراضي اليمنية، بعدما استشعرت خطر وجود «الدبابة» الإيرانية على حدودها الجنوبية، مع ما يعنيه ذلك من مخاطر اندلاع «حراك شيعي» في مناطقها الشرقية.
وحده الله (والمرشد طبعاً) يعلم كم عدد الأطفال الآخرين.