خالد صاغيةيكاد العالم، في الذكرى العشرين لانهيار جدار برلين، يقف وحيداً كتلك المرأة الألمانية في فيلم «وداعاً لينين». كانت كريستيان قد استفاقت لتوّها من الكوما. نزلت إلى الشارع ونظرت في السماء، فوجدت في فضائها تمثالاً للينين تنقله الطائرة بعيداً عن ساحات المدينة. رأت المرأة لينين معلّقاً بحبال الهواء، ولم تفهم. ماذا تعني هجرة لينين للمدينة؟ نهاية التاريخ؟ صراع الحضارات؟ مزيداً من الحرية؟ عودة ثأريّة للإمبرياليّة؟ التلاقي على مشروع الحداثة ودولته أم افتراقاً عن ذاك المشروع؟
لعلّها حكاية «النحاس الاشتراكي». 1500 طن من النحاس نقلت من قصر الشعب في برلين الشرقية إلى برج العرب في دبي. القصر الذي شيِّد عام 1976 نادياً للعمّال والفلاحين ومركزاً لعقد مؤتمرات الحزب الاشتراكي، دُمِّر بعد انهيار الجدار، واستخدم نحاسه في تشييد أعلى برج في العالم، في مدينة المضاربات وغسل الأموال التي يراد لها أن تمثّل نموذجاً لرأسماليّة ما بعد الجدار.
أعاد التسلّط الطبقي العالم إلى ما قبل الثورة البلشفية وإلى ما قبل «العقد الجديد» (New Deal). جرى التراجع عن مكتسباتٍ دفعت الطبقة العاملة ثمنها غالياً. التضامن النقابي يخسر آخر معاقله. التنمية التي تصاغ فيها قصائد المديح ليست إلا من ذاك النوع الذي يأتي على جناح مشاغل العرق في شرق آسيا. مزيد من الفئات المهمّشة في الضواحي وفي جيش العاطلين من العمل لا حول لهم ولا قوّة لتغيير أوضاعهم. الهوّة تتّسع داخل دول الشمال، وبينها وبين دول الجنوب.
حتّى الأزمة المالية الأخيرة التي كان يمكنها أن تقلب العالم رأساً على عقب، انتهت عبر مكافأة المصارف الكبرى على أعمالها المشينة. فحين لم يعد في مقدورها الاستمرار في نهب أموال الناس، جاءت الدولة وقامت بالعمل نيابة عنها، فسخت عليها بأموال الضرائب التي جنتها من أولئك الناس أنفسهم.
انتهت سريعاً أحلام الحالمين بعالم واحد. فهل هي الصدفة وحدها التي جعلت الذكرى العشرين تترافق مع إعادة اكتشاف العالم لألمانيا الشرقية؟ ندم على معاملتها كمجرّد سجن كبير لا فن فيه ولا صناعة ولا أدب ولا أي شيء يفيد القاطنين على الضفة الغربية. ليس الحنين وحده ما يأخذنا إلى هناك مرّة أخرى. إنّها الخيبة. الخيبة نفسها التي أصابت تلك المرأة يوم فتحت عينيها، ورأت أنّ كلّ شيء قد انتهى.
وداعاً لينين. عبارة لا تعني أنّ المنظومة الاشتراكيّة قد انهارت وحسب، لكنّها تعني أيضاً أنّ ما من لينين في الأفق سيعلن، رغم كلّ ما يجري حولنا، أنّ بإمكاننا دائماً أن نخترع البديل... وأن نخترع العالم.