strong>ضحى شمس*في نشرة أخبار قناة «المنار» الرئيسية منذ نحو أسبوع، مرّ تقرير قُدّّم كسبقٍ صحافي يندرج في سياق اهتمام القناة بالتفتيش عن أي «تسرّب» تطبيعي إسرائيلي إلى المناهج التربوية اللبنانية، أو بالأحرى تلك التي تُدَرَّس في مدارس لبنان، ما دامت كل إرسالية أو مدرسة خاصة تلقّن ما يطيب لها لعقول صغارنا، بموجب المادة العاشرة من الدستور. وقد أولت القناة تقريرها ذاك أهمية مضاعفة لكونه جاء بعد فضيحة كتاب «تاريخ العالم الحديث» في مدرسة «انترناشونال كوليدج»، الذي أثارته القناة نفسها، والذي يصف حركات المقاومة في بلادنا بالإرهابية، ودفعت الضجة المدرسة إلى تغطية الصفحة التي ذكر فيها ذلك.
لكن، ماذا يقول تقرير «المنار»؟ بمقدمة تشويقية استهلت المذيعة حديثها عن «فضيحة» تطبيعية أخرى في المناهج اللبنانية، متمثّلة في إدراج فصل يتناول مذكرات آن فرانك، في كتاب «أنتر أكتيف بلس» للصف الثامن لتعليم الإنكليزية في إحدى المدارس الخاصة أيضاً. وآن فرانك، هي مراهقة ألمانية يهودية، هربت مع عائلتها من وجه التصفية العرقية التي كان يقوم بها نازيّو هتلر في الحرب العالمية الثانية، التي تعرف تاريخياً باسم المحرقة اليهودية. لقد كتبت آن فرانك مذكراتها وهي مختبئة مع عائلتها في علّية ما في أمستردام بهولندا، لعشرة شهور تقريباً، لكنّ النازيين اكتشفوا المخبأ، وأرسلت العائلة بكاملها إلى معسكرات الاعتقال حيث قضت، ما عدا الأب.
واستنكر التقرير إدراج هذا الفصل في كتاب يدرّس للطلاب اللبنانيين، مصنّفاً هذا السلوك تطبيعاً مع إسرائيل، وأجرى المراسل مقابلة مع شخص من مكتب المقاطعة لإسرائيل لم أعد أذكر اسمه، كما تحدث النائب حسين الحاج حسن في الاتجاه ذاته، ليختتم التقرير بالتساؤل: ألم يكن الأجدر تدريس أبنائنا مأساة فلسطين، وبطلب القناة اعتبار التقرير إخباراً للأمن العام اللبناني.
وإن كنا ننضم إلى القناة في وجوب اعتماد كتاب تاريخ وطني يأخذ في الاعتبار موقعنا في الصراع، كمجموعة بشرية يحرّكها الدفاع عن مصالحها وحقوقها المشروعة التي تتآكل في عالم شريعة الغاب الدولية اليوم، إلا أننا نرى في اعتبارها تدريس مذكرات فرانك تطبيعاًَ مع إسرائيل، خطأً كبيراً. فهناك فرق كبير بين استنكار تدريس معلومة مفيدة، واستنكار الاستخدام السياسي لهذه المعلومة من أجل تزييف الوعي، وهو أمر تمارسه إسرائيل واللوبي الصهيوني الأميركي والأوروبي على أوسع قاعدة.
وفي أوروبا الخاطئة، المذنبة والمدركة لذنبها، تدرّس مذكرات آن فرانك كنوع من اعتراف الأوروبيين بخطيئة الهولوكوست، وكخطوة بين أخريات مهمتها منع حصول أي أمر مشابه في المستقبل. لكنّ إفراط إسرائيل والمنظمات اليهودية الأميركية في ابتزاز العالم باسم ذلك، أوجد على مرّ السنين ما سمّاه المفكّر اليهودي الأميركي المعادي للصهيونية نورمان فنكلشتاين «صناعة الهولوكوست» (صدر معرّباً عن «دار الآداب»). ويرى فنكلشتاين في كتابه الصادر عام 2000 «أن صناعة حقيقية لذكرى الهولوكوست قد نشأت منذ عام 1967، وأهدافها ابتزاز المال من أوروبا وتبرير سياسة إسرائيل الإجرامية تجاه الفلسطينيين باسم «فرادة» الإبادة اليهودية، رغم أن ما يحدث للفلسطينيين في أحيان كثيرة أبشع بكثير مما حدث لليهود، ومع ذلك لا أحد يتناول هذه التجاوزات اللاإنسانية».
هذا صحيح. وإن كانت القناة قد أصابت في إحساسها باللاتوازن الناشئ من تدريس المحرقة لطلابنا، دون تدريس مأساة فلسطين، فالأمر لعيب فينا أليس كذلك؟ من يمنعنا منذ الاستقلال من إنجاز كتاب واحد للتاريخ يعتمد في كل المدارس، خاصة وعامة. كتاب يُتّفق على الأقل على الوقائع التاريخية الخبرية فيه؟
لكن أن نحذف المحرقة من المنهاج لأنه لا ذكر فيه لنكبة فلسطين؟ هل هو مطلب حكيم؟ ففي رأينا، لو درّست المحرقة للطالب من جهة، ونكبة فلسطين كتتمة، لأمكن الطالب فهم الكثير عن إسرائيل وعن تكوينها النفسي.

فرق كبير بين استنكار تدريس معلومة مفيدة، واستنكار الاستخدام السياسي لهذه المعلومة
تنقل المدارس الخاصة، المتفلّتة من أي رقابة فعلية للدولة، مناهج الدول «المصدّرة للتاريخ»، أي دول الاستعمار السابق كبريطانيا وفرنسا، أو الاستعمار الجديد كالولايات المتحدة، كما هي. لذلك، بالطبع، لن تذكر فلسطين ولا الاستعمار ولا أياً من مفاهيم ضحية ذلك الاستعمار.
لن يضير طلابنا أن يعرفوا بمأساة اليهود في الحرب العالمية الثانية. لا بل إن ذرة شك لا تخالجني في ضرورة هذه المعرفة. وتصبح هذه المعرفة واجباً، أكاد أقول عسكرياً، حين ننظر لأنفسنا كمقاومين يخوضون معركة دفاع عن النفس والوجود في مواجهة إسرائيل. فالمحرقة هي، دون شك، العنصر الأهم المؤسس لوعي اليهود كضحايا، ولوعي الأوروبيين كجلاد... نادم.
أما استخدام هذه المحرقة للتغطية على تحوّل الضحية إلى أسوأ أنواع الجلادين، فهو أمر آخر، أليس كذلك؟ لا بل إن جرائم إسرائيل أسوأ من جرائم النازية، لكونها بالضبط جرائم ضحايا، أي جرائم يعرف مرتكبوها جيداً ما يفعلونه، لكونهم اختبروا مثله.
فباسم ماذا سأخفي فكرة كهذه عن طلاب لبنانيين، ناس هم على تماس دائم مع هذا العدو؟ أليس من واجبي إعلامهم، كوسيلة إعلام، بدلاً من التشكيك في حقائق تاريخية من غير المفيد الاختباء خلف إصبع تغييبها؟ إن الإجابة عن هذا السؤال هي التي تحدد ما إذا كانت «المنار» تريد أن تكون وسيلة إعلام أو وسيلة بروباغندا.
* من أسرة «الأخبار»