ليث شبيلات* كل المناضلين من أجل الحريات يرددون بنبل لا يعمّر عند كثير منهم طويلاً مقولة المفكر الفرنسي فولتير الشهيرة: «أنا أخالفك الرأي، لكنني على استعداد لأن أموت في سبيل حماية حقك في إبداء رأيك». وإنّ مما يجلب الإحباط أن يرى المرء معظم حملة رايات الإصلاح والمناضلين من أجل إزالة الظلم والاستبداد حاملين فيروس المرض الذين يقاومونه، وإن من أسهل الطرق لإيجاد الأعذار لعدم نصرة حق غيرك عند تعرضه للعدوان، أن تبرز «عيوب» المعتدى عليه في نظرك التي تجعلك ممتنعاً عن نصرته في حقه الأساسي بوصفه إنساناً. أما إذا انتصر أحدهم لحق آخر ممن لا يتفق معه في أطروحة ما وممن لا يحظى برضى البعض أو الكثيرين، هوجم بالتشكيك في ثباته كأنه في دفاعه عنه قد تماهى مع أطروحته.
ما زال كثير من الناس يعتقدون أن سبب عزوف كاتب هذه السطور عن نشاطه المعتاد هو الاصطدام مع الحكومات، ولا يرغبون في تصديق عذره المتمثل في أن الحكومات مكشوفة مواقفها منذ زمن من دون تغيير، إلا أن قوى الإصلاح والتغيير هي التي تكشفت مواقف معظمها وأخلاقياتها، بحيث أصبح من العبث مشاركة المطالبين بالتغيير، الذين إذا تحقق لهم ما يريدون فإنهم سيعيدون إنتاج الظلم والقمع. وقد رأت أمتنا في العقود الماضية نماذج دالة على ما ذهبنا إليه.
نعم! إذا لم يؤسس المصلحون على اختلاف مشاربهم لآداب في الاختلاف، ولرؤية في التعايش، فإنهم يكذبون من دون وعي منهم، وسيلغي فريق منهم الآخر في كل مركز يتمكن منه. فهل هنالك أشد حمقاً ممن يعتقد أنه إذا تمكن من الأمر فإنه قادر على أن يلغي الآخر؟ إذاً، لماذا لا نتعلم التعايش والتعاضد في ما نتفق عليه من إصلاح ويعذر بعضنا بعضاً في ما نختلف فيه؟ قال أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه لقاتل أخيه زيد بعدما عاد عن ردته: «والله لا أحبك»، فسأله: «وهل يمنعني ذلك حقاً يا أمير المؤمنين؟»، قال: «لا!»، فقال: «وما يهمني إذاً؟ إنما يأسى على الحب النساء».
مَن الخاسر إذا لم ينصر قضية حريات أساسية بسبب من عدم رضاه عن الشخص المستهدف؟ ميدان السجال الفكري منفصل كلياً عن ميدان الدفاع عن حقوق الإنسان، وكل من يخلط بين الأمرين يسقط ويفقد صدقيته في هذا الشأن. أسوق هذا الكلام، وقد أزعجني جداً تخلي الكثيرين عن استنكار القرار السيئ بإحالة الكاتب ناهض حتر على المحكمة «بتهمة» إصداره كتابه «يساري أردني على جبهتين». وكأن ناهض ليس كاتباً أردنياً ضُيِّق عليه في بلده، ففتحت له صحيفة محترمة في لبنان مجالاً لمقالات مهمة تحتوي على تحليلات علمية، وافقته عليها أو لم توافق. فقام بتجميع مقالاته في كتاب حتى يطّلع الأردنيون عليها، فعُدّ ذلك منه جريمة! أليست الجريمة الكبرى إقفال مجال الكتابة أمامه وأمام من هم من أمثاله في بلده؟
لقد اطلعت على الكتاب، ولاحظت فيه تقدماً ملحوظاً في التعبير عن أكثر المواضيع حساسية التي يُتّهَم فيها الكاتب عادة، بالتطرف. وقد ذاكرت في هذا الشأن الصديق العالم والمفكر الماركسي الدكتور هشام غصيب الذي كان يشاركني الرأي في نقد أسلوب تعبير ناهض المثير، فأجابني بأنه قد لاحظ الملاحظة نفسها. ولا أقصد بالطبع أن أوحي أن موقف ناهض قد تغير، بل إنه يعرض موقفه بأسلوب موضوعي علمي كان أكثر توفيقاً بكثير من أسلوب سابق. ولا يعني ذلك أيضاً أنني لا أخالف ناهض في بعض ما ذهب إليه، فأنا لا أوافقه على أنه «قليلة جداً حتى الآن، بل نادرة تلك الأصوات الفلسطينية التي أعربت عن تضامنها مع الحركة الوطنية الأردنية في مواجهة مشروعي الوطن البديل والدولة البديلة»، بل أرى على العكس أن هناك شبه إجماع على رفض الوطن البديل. فإنْ كانت الأصوات لا ترتفع، فهي لا ترتفع في معظم القضايا المحقة الأخرى، لكن عدم ارتفاع الصوت لا يمثّل ما في القلوب بقدر ما يمثّل حالة القمع المسببة للكتم. الكاتب نفسه ذكر أن الحملات الرسمية لشعارات مثل «الأردن أولاً» و«كلنا الأردن» تستهدف فلسطينيي الأردن، وليست النية من ورائها توحيد المجتمع على طريق المقاومة، بل على طريق الرضوخ للمعاهدة واستحقاقاتها، التي على رأسها الوطن البديل. وفي غياب المعارضة الجادة والرضوخ للقمع وسيادة الصمت طلباً للنجاة، فإن عدم ارتفاع الأصوات لا يعني الموافقة. ولولا هذا الرفض الجماعي شبه الكامل لما حدث ما ذكره ناهض لاحقاً بقوله: «لاحظنا مدى السهولة التي استطاعت بها قوى معارضة محدودة إسقاط مشروع الأقاليم».
إن دقة الكاتب في نقد شعار رفض الوطن البديل شعاراً سلبياً تدل على عمق في التفكير والتحليل لديه. فناهض يصر على أن الشعار الذي يجمعنا يجب أن يكون شعاراً إيجابياً، وهو شعار «حق العودة». أما الوطن البديل فقد ينقلب لاحقاً صراعاً على مكان

إذا لم يؤسس المصلحون لآداب في الاختلاف، ولرؤية في التعايش، فسيلغي فريق منهم الآخر

الوطن البديل، لا رفضه. وإن دعوة ناهض لضرورة اجتماعنا، أردنيين وفلسطينيين، على إنشاء مقاومة مستعدة للدفاع عن الأردن من الزحف الصهيوني، لهي دعوة جريئة إيجابية أتمنى أن يرتفع لمستواها آخرون. كذلك أتمنى أن يرتفع سواهم إلى مستوى إعلانه الإيمان الكامل بأن الدفاع عن الأردن لا يمكن أن يقوم إلا بالدفاع عن فلسطين، وأن تقاعس الأردنيين عن الدفاع عن فلسطين «قضيةً أردنية»، لن يؤدي إلا إلى ضياع الأردن لاحقاً. إن هذا الموقف الدقيق يختلط على كثيرين ممن لا يحبون ناهض، فيضخمون ما يمكن تأويله على أنه «عنصرية»، بدلاً من تفسيره على حقيقته، أنه خط مقاوم.
وأعجب ممن يتهم الصديق ناهض بالطائفية مع أن دعمه للمقاومة التي تمثلها حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان دعم غير محدود. وما نقده لبعض ما يرى من سلبيات عندها إلا من باب الموضوعية. وأذكر أن ناهض قد وجه لي في السابق نقداً شديداً في بعض المواقف، وهذا حقه. لكنني لم أعدّ ذلك نقداً صادراً عن «طائفي حاقد» لا سمح الله، بل عن غيور على وطنه خالفني الرأي. أما إن كان لا سمح الله طائفياً، كما يزعم البعض، فإنني بالضرورة إذاً ساذج لعدم اكتشافي ذلك طوال هذه السنين رغم علاقته القريبة مني.
في مواقف مهمة في مواجهة السلطة على مواقفها، مثل الصمت على غزو العراق ومثل احتمال إرسال قوات أردنية إلى العراق، وغيرها مما كانت تضعف عن نقده شخصيات وتنظيمات كثيرة، كان ناهض أصلب المتجاوبين مع تحركي. وفي أكثر من حالة كان هو المتحرك الأول الذي لاقى دعماً مني. ولن يثنيني أي نقد له عن أن أقدّر ما خبرته فيه شخصياً من وطنية وصلابة وشجاعة.
أدعو أصدقائي من كل الأطياف، وما أكثرهم والحمد لله إلى أمرين:
1. إلى التضامن مع أنفسنا بالتضامن مع ناهض في هذا الشأن، ومع كل الآخرين الذين يواجهون القمع والمنع، وافقناهم الرأي أو لم نوافقهم.
2. أن يفتح المختلفون فكرياً بعضهم مع بعض حوارات هادئة في جلسات خاصة يمكن نشر نتائجها لاحقاً بلغة تليق بآداب الاختلاف، من دون الانتقال إلى نعت بعضنا لبعض بالنعوت التي تجعل من التقائنا على عمل وطني مستقبلاً، أمراً غير ممكن.
* رئيس جمعية مناهضة الصهيونية
والعنصرية ـ عمّان