محمود عبد الغنيكل صباح، يظهر أحمد اليابوري في أماكن عمل عديدة: في «كلية الآداب» أو «اتحاد كتّاب المغرب» عندما كان رئيساً له أو في وزارة الثقافة، لأنّه يشرف على مجلة «المناهل». كل مَن يراه لا بد من أن تلمع في ذهنه قصيدة للشاعر الأميركي فرانز رايت عنوانها «عندما ترى الشهرة مقبلة أُهرب». يعترف فيها الشاعر بأنّه يدين للشهرة بالكثير: بحياته، لأنّه كان سيطلق النار على نفسه خمس مرات، ومنعته من ذلك فكرة المتعة التي تستشعرها الشهرة سراً بينما تبكي على قبره. وأنهى قصيدته قائلاً للشهرة: «إنك حين تبتسمين/ أيتها الشهرة/ تشبهين نصل سكين».
عندما تتكلّم مع «أستاذ الأجيال» ـــــ كما ينادونه في الأوساط الأكاديمية ـــــ وتستدرجه لقول كل شيء، فهو يقول كل شيء تقريباً عن الرواية والقصة القصيرة والتحديث في الكتابة، ولا يقول شيئاً عن حياته وطفولته وعلاقته بالوالدين والأساتذة. هو شخص يرى الشهرة مقبلة، فيهرب. وعندما تجلس أمامه وتشهر أسئلتك، يقطّب حاجبيه كأنه يسمع ضجيج طاحونة. الحديث عن الذات يتعرّض لإدانة ثقافية واجتماعية ودينية. من الصعب أن ينطق كلمة «أنا»، وخصوصاً أنّ «الأستاذ» اليابوري ودع الكثير من الناس والأشياء والعادات والكلمات، بما فيها كلمة «أنا»!
يحن اليابوري كثيراً إلى حيّ «رأس الشجرة» مسقط رأسه في مدينة سلا، وحضن أسرته الشعبية هناك. سطور كثيرة يمكن أن تكتب عن الهارب من الشهرة، تتناول أسرته ومدينته وطفولته وسيرة طلبه للعلم. لكن الرؤية الصائبة تجعلنا نقول إن حياة الفرد هي قصة واحدة فريدة، سواء كانت في صفحة أو كانت ممتدة وموزّعة في كتاب أو أكثر. ومهما فصل المؤلف في الحديث عن نفسه، فإنّ القص يبدو دائماً أقصر من الحياة التي عاشها.
إنّ الحياة رحلة تصدق عليها استعارة رحلة الأوديسا. فالإنسان ينطلق من مرفأ نحو أوديسا لا نهاية لها. وذلك يبرره قول اليابوري «ليس هناك ما يستحق أن يذكر في حياتي المتواضعة التي بدأت هادئة في الثلاثينيات، وها هي تنتهي هادئة في بداية القرن الواحد والعشرين. وبين البداية والنهاية، وقعت أشياء». ألا نلاحظ أنّ استعارة الأوديسا تصدق على هذه الحبكة النموذجية، كما أنها مناسبة لوقائع الحياة نفسها؟ غير أننا ـــــ كما يقول ـــــ «نتوقع من النهايات، أكثر من البدايات». النهاية أكثر أهمية وحسماً من البداية، إنّها شيفرة دالة على الوجود. والنهاية أيضاً لها أهمية كبرى بالنسبة إلى النوع الأدبي أيضاً، وخصوصاً القصة القصيرة التي أدمن اليابوري دراستها لأنها تدلّنا على الموضوع وعلى الأثر المتحقّق.
ينحدر اليابوري من دمنات من جهة الأب، ومن ورديغة من جهة الأم. لكن كيف جرى اختيار مدينة سلا مكانَ إقامة؟ هذا ما يسكت عنه «مؤرّخو» العائلة. لكنّ الجدة «الهاشمية» تفيد أن آل اليابوري يأتون من مدينة فاس، شارك بعض الأجداد في تمرّد على «الملك» وفشل التمرد، ففر بعض الناجين إلى جنوب المغرب، واستقروا في دمنات ودار الزمن دورته، فامتلك بعض الأجداد أراضي وأشجار زيتون ومناجم ملح... وفي عهد الباشا الكلاوي، تعرّضوا للمضايقات، فصودرت أراضيهم وفروا من جديد، لكن هذه المرة إلى الشمال الغربي، فاستقر بعضهم في أزمور، ذلك الثغر البرتغالي الشهير، والبعض الآخر في سلا. تلك هي الأسطورة العائلية التي تناقلها مؤرخو الأسرة، إلى أن جرى الاستقرار على كنية «اليابوري» عوض عن الدمناتي.
اليوم، صار أحمد اليابوري مرجعاً أساسياً للباحثين الجامعيين. أطروحته الرائدة عن «الفن القصصي في المغرب» تعدّ أول بحث يُناقَش في الجامعة المغربية عام 1967 على مستوى البحث الأدبي. معلّمو أحمد اليابوري وأساتذته، بل لنقل «شيوخه»، كانوا مختلفين: المجاهد أبو بكر القادري الذي تعلّم عنه دروس الوطنية الأولى في «مدرسة النهضة» في سلا. ثم كان الانتقال إلى دروس السلك الثانوي في «زاوية سيدي الغازي» في الرباط، ثم الانتقال بعد سنة ونصف سنة إلى مدارس محمد الخامس، حيث تلقّى اليابوري دروساً على أيدي الأساتذة: حسين البكاري في الرياضيات، والطاهر زنيبر في التاريخ والعربي المسطاسي في النحو، وبادو في الفرنسية، والسعيدي في اللغة والإنشاء. لكن لذكرى الشهيد المهدي بنبركة وقفة خاصة، المهدي الذي كان يدرس الفيزياء. وهنا يذكر اليابوري حادثة وقعت له مع الشهيد الذي دخل مرة القسم ولم يكن يحمل محفظة، ولا أوراقاً. ثم طلب من التلاميذ الإجابة في خلال نصف ساعة عن أسئلة الفيزياء، وطلب من الذين حصلوا على النتيجة أن يرفعوا أصابعهم، وكان اليابوري منهم. وبعد لحظة، راح المهدي يمر بين الصفوف للاطّلاع على النتائج، ولما قرأ جواب اليابوري، قال: «النتيجة الحسابية صحيحة. لكن الطريقة خاطئة»، فقال اليابوري: «قد تكون الطرق كثيرة، لكن العبرة في النتيجة». وبلطف وحسم، أجاب بنبركة: «الفكر العلمي يهتم أيضاً بالطريقة». وكان هذا أول درس تلقّاه اليابوري في الابيستمولوجيا «من شهيد لا يشبه الشهداء». شهيد يطلق عليه مناضلو حزب الاتحاد الاشتراكي «عريس الشهداء».
ثم جاءت مرحلة العمل في الصحافة، التي التقى فيها الراحل محمد حرمة باهي، الذي جاء باحثاً عن الحروف الأولى للأبجدية. ثم حصل اليابوري على الإجازة في الأدب العربي، والتحق بوزارة الخارجية، وتحديداً في قسم المنظمات الدولية. ثم عمل في الجامعة في فاس برفقة محمد برادة، أحمد المجاطي، إبراهيم السولامي، وحسن المنيعي. وترأس «اتحاد كتّاب المغرب» في الثمانينيات، وما زال أستاذاً في كلية الرباط إلى اليوم. ها هو الأستاذ اليابوري قد تحدث بعد صمت، بعد جدران الصمت التي تحبس الذهن، وتدعي أنها تحميه. رغم ذكره لأسماء عديدة، فإنّ حديثه خال كلياً من ثنائية «أنا» و«هم»، رغم أنّ «هم» تركوا أثراً كبيراً في الذات والهوية. وذلك أمر طبيعي بالنسبة إلى كل إنسان يعيش بين الأحياء. إنّنا «نعيشها لنرويها» كما يقول كتاب غابريال غارسيا ماركيز.


5 تواريخ

1935
الولادة في مدينة سلا
(المغرب)

1967
أنجز أطروحة جامعية رائدة
في مجالها تحت عنوان
«فن القصة في المغرب»

1983
انتُخب رئيساً
لـ«اتحاد كتاب المغرب»

1993
صدور كتابه المرجعي
«دينامية النص الروائي»

2009
ترأس لجنة «جائزة المغرب للكتاب»