كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الوثائقي المتعلق بقضية التغيّر المناخي العالمي، عصر الأغبياء أو عصر الغباء كما سُمّي، الذي عرض أخيراً على شاشات الأونيسكو برعاية سفيرة بريطانيا، ضمن سلسلة برامج «السجادة الخضراء»
علي درويش
منذ بضعة أعوام، اجتاح فيلم آل غور «حقيقة غير ملائمة» العالم، وعمّم الحديث الدائر، لكن من دون ضجيج، عن تغيّر المناخ وتأثيراته الممكنة على الحياة في هذا الكوكب. لم يكن ما طرحه نائب الرئيس الأميركي الأسبق خاطئاً، لكن كان من الأجدر بالسيد غور أن ينشر أفكاره خلال التفاوض على معاهدة كيوتو، وهي كانت معلومة أصلاً آنذاك، بدلاً من ممارسة سلطاته ممثلاً الدولة العظمى الوحيدة لإعاقة الوصول إلى نصّ جدّي آنذاك. لا أعتقد أن آل غور كان غبياً وقتها، بل كان يمثّل روح التسلّط والسيطرة التي تمارسها الإمبراطورية. لقد كان دور الولايات المتحدة، ممثّلة بشخص آل غور ومن كان خلفه، مدمّراً تجاه إخراج اتفاقية إطارية لتغيّر المناخ تفيد الكوكب، وما زالت تؤدي هذا الدور السلبي.
واليوم، في حالة فيلم «عصر الغباء»، ما معنى أن يفتتح أو يرعى سفير ما العرض الأول؟ هل يعني وجود هذا السفير/ السفيرة أن الدولة المعنية قد عقدت العزم على وضع ثقلها لوقف التغيّر المناخي؟ أم أن هذا الوجود هو للتعمية الإعلامية فقط؟ هل يمكن أحداً أن يقول ماذا فعل الدبلوماسيون أو ممثّلو هيئات الأمم المتحدة الذين حضروا الحفل في اليوم التالي؟ فمن يتابع مفاوضات المعاهدات الدولية ومؤتمرات الأطراف يتولّد لديه اقتناع بأن الهدف ليس إنهاء المشكلة، بل إدارتها كي يستمر النظام النفعي بالعمل وتستمر السياحة على حساب هذه الاجتماعات.
فالقرارات تؤخذ في الاجتماعات الجانبية المغلقة، في ظل مشاركة ضعيفة لممثلي الدول النامية. أما ممثّلو هيئات المجتمع المدني، فمحظور عليهم وعليهن المشاركة في الاجتماعات المغلقة، وإذا ما تكرّم أحد عليهم، فقد يحضرون من دون إمكان المشاركة في النقاش. وبعدها يقال في الإعلام والتقارير إن ما نتج كان بمشاركة هيئات المجتمع المدني. هل من عاقل أو غبي يمكن أن يشرح كيف تكون المشاركة إذا كان الكلام غير مسموح؟ عين الغباء هو ما يصدّقه بعض ممثّلي الجمعيات غير الحكومية أن وجودهم في بون أو بانكوك أو غيرهما ورفعهم ليافطة أو عقد مؤتمر صحافي يمكن أن يؤثر في مجرى الأحداث. فخلال الجولة الأخيرة بشأن تغيّر المناخ في بانكوك، التقى بعض زعماء الدول الكبرى في نيويورك على هامش اجتماعات الهيئة العامة للأمم المتحدة، وكان الكلام شديد الوضوح: لا تتوقعوا الكثير في كوبنهاغن! لن يكون هناك أية التزامات نوعية. بلغة أخرى، أعلنوا وفاة مؤتمر الأطراف الخامس عشر من نيويورك، ومراسم الدفن ستكون في كوبنهاغن في كانون. ومؤسسات المجتمع المدني مدعوّة للمشاركة في الصلاة على راحة النفس. من يرد المشاركة فعليه الاتصال بسكرتاريا المؤتمر.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن الدول الصناعية، على رأسها الولايات المتحدة ومستعمراتها العربية والغربية، ستستمر بممارساتها المدمّرة للمناخ عبر زيادة الانبعاثات أو عدم خفضها في أحسن الأحوال. ولمن يريد من مرتزقة التنمية وسماسرتها، هناك بعض الأموال لوضع دراسات من وراء المكاتب لا تنفع ولا تغني من جوع، جلّ ما فيها أنها تُنمّي جيوب واضعيها فقط! كما يمكن بعض المهرّجين القيام بما يسمّى تنمية قدرات المجتمعات المحلية، ربما لأنها هي المسؤولة عن الكارثة. كما في الإمكان توزيع بضع طباخات شمسية على عدد من رعاة الماشية لكي يتوقفوا عن تلويث الهواء. كل هذا من أجل جيوب الخبراء لكي يتسكّعوا في أفخم المقاهي مطلقين العنان لنظريات بهلوانية.
فعلاً إنه عصر الأغبياء والغباء المستفحل! ولكن من هم الأغبياء؟ من دون شك، إنهم ليسوا تجار التنمية وسماسرتها من بعض الجمعيات أو من يسمّون أنفسهم خبراء، وبالتأكيد ليسوا ممثّلي الدول الكبرى أو النامية. الأغبياء هم ممثّلو المجتمع المدني الفعليون الذين يسمحون لهؤلاء باستخدامهم سلعاً في تجارتهم الرابحة. الأغبياء هم من يقبلون بالبقاء درجات «يتعمشق» عليها الوصوليون. والغباء هو في عدم معاقبة الحكام من سلالات المتحجرات الذين أوصلوا مواطنيهم إلى هذا الدرك لكي تعتاش على حسابهم مجموعة من الطفيليات والسماسرة، هذه السلالات المحنّطة التي جلبت الاستعمار الاقتصادي إلينا وجعلته يأكل مواردنا.
الغباء هو أن تطالب بعض المؤسسات التي تدّعي تمثيل المجتمع المدني بأن تقبل الدول النامية مشاركة الدول الصناعية في المسؤولية، وإن بنسب متفاوتة، لأن ذلك يكبح عملية التقدم في الدول النامية في ظل عدم تحمّل الدول الصناعية مسؤوليات مادية فعلية عبر الوفاء بتقديم ما أقله 0,7 % من ناتجها للتنمية ضمن التزامات قمة الأرض في ريو عام 1991.
العبرة الأولى التي يجب استخلاصها من فيلم عصر الغباء هو أن الوقت قد حان لإزاحة الأغبياء من الميدان... هم ومفاعيل غبائهم.