أنسي الحاجأدلى المرجع السيّد محمد حسين فضل الله في مطلع الأسبوع المنصرم بتصريح قال فيه:
«إنني ألمح حركة دولية تتزعّمها الولايات المتحدة تعمل بطريقة وأخرى لإخراج المسيحيين من المعادلة الداخلية، أو على الأقل لإضعافهم، حيث يتطلع الأميركيون إلى لبنان من زاوية معيّنة، ومن منظار يعتقدون خلاله أن مستقبل لبنان لا تصنعه الجهات المسيحيّة المختلفة. كما أنهم يعملون لاجتذاب لبنان إلى سوق تجارتهم الدولية في المنطقة. وهم ينظرون إلى المنطقة بعين المصلحة التي ترصد المواقع خلال الحركة المذهبية والسياسية، كما ترصدها من زاوية الأمن الإسرائيلي».
وأضاف: «إننا نعتقد أن الإدارة الأميركية الحاليّة تتبنّى الخط البراغماتي القائم على النفعية التي لا تقيم وزناً للقيم الإنسانية الحضارية، وبالتالي فهي لا تختلف في العمق عن الإدارات الأميركية المتعاقبة التي لم تحترم الوجود المسيحي في لبنان، إذ عملت منذ عام 1975 على إضعاف هذا الوجود. وعلى الجميع ألّا ينسوا مشروع دين براون الذي كان يقوم على تهجير المسيحيين وإخراجهم من الشرق. وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة الأميركية تُخلِص للمسلمين، لأنها لا تخلص إلا لمصالحها ومصالح إسرائيل».
تبرئة للمسيحيين من حيث لا يدرون. شكراً للسيّد فضل الله. وليسمح لنا بأن نلفته إلى أن هذه الحركة الدوليّة مستمرّة منذ عقود، ولا شكّ في أنه، بفكره الثاقب ونظرته الشموليّة، قد استشعرها ولمس مظاهرها من زمان.
ولا فائدة من القول إنه كان حريّاً بالوسط السياسي المسيحي أن يتحلّى بمثل هذا القَدْر من الوعي ويدرك ما يُحاك، فنظرة واحدة إلى الوسط المذكور ترينا مدى الضحالة الفكريّة المستفحلة فيه.
■ ■ ■
آخر الرؤيويين بين الساسة المسيحيّين كان ريمون إده. كان آخرهم، وفي حينه أيضاً كان شذوذاً على القاعدة. كأن وصول الموارنة إلى السلطة راح منذ الاستقلال يأكل من عافيتهم الفكريّة.
عام 1976 وجّه ريمون إده إلى هنري كيسينجر رسالة جاء فيها: «ليس لي شرف معرفتك، لكنّني أعرف ما تقدر عليه، خاصة منذ أصبح هذا الجزء من العالم حقل صيد مخفوراً لك تستطيع أن تختار فيه من الطرائد ما يعجبك (...) أجد نفسي مضطراً إلى الملاحظة أن الجيش السوري الذي دخل لبنان من غير إذن السلطات المختصة، ما كان ليفعل لولا موافقة الحكومة الأميركية. ولا أستطيع أن أتصوّر للحظة أن صديقكم الجديد حافظ الأسد سمح لنفسه باحتلالنا دون أن يحصل من واشنطن على الضوء الأخضر (...) لماذا يا سيّد كيسينجر لا تأتي لتمضية ليلة أو نهار في بيروت؟ صحيح أني لا أستطيع أن أضمن لك ليلة هادئة أو أضمن سلامتك. لو فعلتَ لاستطعتَ أن تقدّر عن كثب منافع التدخّل السوري في كل الميادين، ولكنتَ ربما أسفتَ لهولِ الكارثة التي حَمَّلْتَنا إيّاها».
وقد ردَّ عليه كيسينجر من نيو مكسيكو، حيث كان، بالرسالة الآتية: «قبل أن أدافع عن نفسي أحبّ أن أذكّرك بزيارتي للبنان. يومها طلبتُ شخصيّاً من سفارتنا في بيروت أن تتصل بأجهزة الأمن عندكم وتلحّ عليها بوجوب تغيير مكان الاجتماع برئيس جمهوريتكم (سليمان فرنجية) لأسباب تتعلق بسلامتي. وذكر المسؤولون عن الأمن في السفارة الأميركية في بيروت أن معلوماتكم تشير إلى وجود صواريخ أرض ـــــ جوّ سوفياتيّة الصنع ستوجَّه إلى طائرتي قبل هبوطها في مطار بيروت. وكنتُ بهذا العمل أحاول أن أمتحن مقدار السيادة اللبنانيّة وقدرة السلطة على فرض إرادتها. وبدلاً من أن ترفض الدولة اللبنانيّة هذا الإحراج، انتقل رئيس البلاد إلى مكان خفيّ، سرّي، ليجتمع بي. عندئذٍ أدركتُ حقيقةً أنْ لا وجود للدولة اللبنانيّة وأن السيادة معدومة. وصدّقني أن اللقاء القصير كان مَضْيَعة لوقتي الثمين. فقد سئلتُ أكثر من عشر مرّات عن الضمانات الأميركية لاستقلال لبنان وسيادته. ولم أجد لدى المسؤولين أيّة رغبة وطنية في تأمين هذه الضمانات. ولا أكتمك أني أجريتُ امتحانات عديدة من هذا النوع مع حكومات عربيّة أخرى، ولكن جميع المسؤولين في الأردن أو سوريا أو مصر أو غيرها رفضوا تغيير بند واحد في برنامج زيارتي لهم، واعتبروا أن الدفاع عن أي زائر رسمي وحمايته هما مسؤوليّة داخلية. لذلك اكتشفتُ خلال الساعات القليلة التي أمضيتها في ثكنة عسكريّة عندكم، أنني في وطنٍ هارب يختبئ من واقعه المتردّي!
طبعاً أنا أعرف جوابك على هذا الكلام. فالمسؤوليّة دائماً وأبداً تقع على الولايات المتحدة. وإنما ثقْ بأننا حاولنا مراراً وتكراراً أن نتآمر على أنظمة عديدة في العالم العربي ـــــ ولا نزال ـــــ لكن كلّ محاولاتنا باءت بالفشل. لماذا؟ لأنّنا اصطدمنا بمقاومة وطنيّة وبمناعة داخليّة. والزلازل لا تحصل إلاّ في الأرض المشقوقة. ولا أكتمك أن لبنان بلد مثالي لتحقيق المؤامرات، ليس ضدّه فقط بل ضد العالم العربي ككلّ. من هنا اكتشفتُ في تناقضاته عناصر جديدة من أجل نَصْب فخّ كبير للعرب جميعاً».
■ ■ ■
رغم لؤمه وكراهيته ينطوي ردّ وزير الخارجيّة الأميركي الأسبق على حقائق. «لا وجود للدولة اللبنانيّة». «السيادة معدومة». «وطن هارب». «بلد مثالي لتحقيق المؤامرات»... يتشفّى كيسينجر ويمعن في تحريك السكّين في الجرح. صفة الساديّ المستقوي على الضعيف، الذي يزيده اتهامه بالجريمة نشوةً وغلوّاً في الإجرام. وأبلغ ما في هذا الردّ (وقد استقيتُ الرسالتين من شريط وثائقي أعدّه الإعلامي ريكاردو كرم عن ريمون إده وسيُبثّ قريباً) الصورة التي يعطيها عن أخلاق سياسةٍ أميركيّة لا تزال مفاعيلها حيّة ولو تغيّرت العهود وتنوّعت الأساليب. وهو ما قاله أيضاً في تصريحه السيّد فضل الله، وما أعاده إلى الأذهان في خطابه الأخير السيد حسن نصر الله، وما أوجز وجهاً منه الأستاذ وليد جنبلاط بقوله أخيراً: «الدروز والموارنة صاروا هنوداً حمراً».
كان الاستعمار الأوروبي التقليدي، على مساوئه، يتّصف بحدودٍ دنيا من الأخلاق يخجل بتجاوزها. وله في ديارنا وديار غيرنا آثار حميدة، من طرق شَقّها إلى جسور مَدّها إلى مدارس وجامعات ومستشفيات فتحها. صحيح أن الفرنسيين أسّسوا المدارس ليعلّمونا لغتهم، وشقّوا الطرق ومدّوا الجسور ليتمكّنوا هم من التجوّل، لكنّها أصبحت مدارسنا وطرقنا وجسورنا، أما لغتهم فنحن من الذين يعتبرون أنفسهم محظوظين بكونهم تعلّموها. كذلك قلْ عن باقي المنشآت. أمّا الأميركيّون فيستطيعون أن يفاخروا بأن نظامهم يتيح لرجل أسود أن يصل إلى الرئاسة، لكن سياستهم عاجزة عن أن تطبع أثراً إيجابيّاً واحداً في مكان من العالم.
ونحن في لبنان ما قاله عنّا كيسينجر وأكثر. ولكنْ بـ«رعاية» أميركيّة. لم يعد المسيحيّون يشكّلون سلاحاً رئيسياً في لعبة الأمم الشرق الأوسطيّة، حيث الهدف طبعاً هو النفط والغاز والشرق الأوسط الجديد وعماده الثلاثي تركيا ـــــ إيران ـــــ إسرائيل محلّ العرب والعرب والعرب. وبات التركيز على تناقضات المعادلة السنيّة ـــــ الشيعية.
في الماضي كان يمكن استخدام مسيحيّي الشرق كضحايا والبناء على ذريعة حمايتهم، ولم يعودوا ضمن لعبة الأمم الحديثة ينفعون كضحايا. وكانوا إلى وقت مضى، في لبنان طبعاً، يصلحون لدفعهم إلى انتحال دور الجلّاد، وقد أنهكهم هذا الدور إلى حدّ باتوا معه لا يصلحون إلاّ جلّادين لأنفسهم.
هنا تنتهي حدود الرثاء. نحن ممَّن يعتقدون أن مسيحيّي المشرق تجوهروا حين كانوا خارج السلطة. نهضويّو التاسع عشر والعشرين بذلوا طاقاتهم في الغوص على المعارف وأنتجوا روائعهم من نفوس شحذها العذاب وصقلتها الوحدة وتوهّجت على ضوء الشموع قبل أن تصبح نيراناً على رؤوس جبال العالم العربي. ربّما منحت السلطةُ مسيحيّي لبنان بعض الأمان النفسي، لكنّها استسقطت عليهم أحقاد الجميع، حتى بات تقليص حجمهم السلطوي يبدو أشبه بالنعمة. فليعودوا إلى عروش الأرض والفكر والأدب والفنّ وليكونوا أنبياء وعي وتجديد ورُسُل تبصير ومصالحة. حتّى الهجرة أفضل من أن يتحوّل المرء أداةً في أيدي قاتليه.
لا تكرهوا شرّاً، ولو كان برعاية أميركيّة.


في رحاب الهامش
قرأتُ بمتعة ما نشره الشاعر الصديق عبد المنعم رمضان في جريدة «الحياة» الأحد الماضي حول مصادرة كتبي في مصر. لم أكن أعرف مكابدة الأستاذ أحمد مجاهد ومدى فضله على إعادة نشر مجلّداتي ونشر سواها من «المحظورات»، حتّى كشف عن ذلك مقال رمضان.
أمام هذا الشريط من فصول المعاناة شعرتُ بحَرَجٍ شديد. وأقولها بصدق: لم تكن كتبي تستحقّ هذا العناء. والصحيح أيضاً، وهو ما توقّف عنده في «السفير» الأستاذ عبّاس بيضون، أنَّ في طبيعة كتبي، على ما يبدو، شيئاً يدعوها إلى الاحتجاب.
هناك كائنات تنشأ في الهامش وتحيا في الهامش وتَفْزَع إلى الهامش. وقد يخلع عليها صخبٌ ما في وقتٍ ما حلّةً من الاستعراضيّة، ولكنْ لا يُبنى على الظاهر. لقد كانت الساحات طوارئ، أعشاباً دفاعيّة جُنَّت حول المكان. ثم رجع سكون الهامش يبسط رحمته. ولا بدّ من أن تعود النهايات وتشبه البدايات.