إيلي شلهوب


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

تشهد المنطقة هذه الأيام محاولة لإعادة خلط الأوراق الدبلوماسية، أو بالأحرى إعادة ترتيب الأولويات فيها، بما يعيد الاعتبار للمسار السوري، بعدما بلغ المسار الفلسطيني طريقاً مسدوداً، وخفت ضجيج الملف النووي الإيراني. حجر العثرة الأخير لا شك في أنه كان اللقاء الذي جمع باراك أوباما ببنيامين نتنياهو. صحيح أن المعلومات تضاربت حول ما جرى خلاله، لكن الطريقة التي جرى بها، بتوقيته وآلياته وما رافقه من تغييب للصحافيين (لا مؤتمر صحافياً ولا حتى صورة مشتركة)، كلها إشارات تفيد بأن الأجواء كانت متوترة وسلبية، إن لم تكن صدامية. شفتا نتنياهو اللتان كانتا ترتجفان لدى خروجه من المكتب البيضاوي أبلغ دليل. وما سياسة «الغموض الدبلوماسي» إلا محاولة لتجنيب العلاقات الأميركية ـــــ الإسرائيلية التأثر بالخلافات بين الرجلين. ما كان لترويج نتنياهو مقولة أنه لوى ذراع أوباما في ملف الاستيطان أن يمر من دون نتائج.
إذاً بات واضحاً أن إدارة أوباما عاجزة عن انتزاع أي «تنازل» من حكومة نتنياهو يمكن من خلاله بعث الحياة في عملية التسوية، باستثناء التوافق على ضرورة الحفاظ على محمود عباس، ولو في حالة الموت السريري التي وجد نفسه فيها سياسياً. وما اعتراف صائب عريقات بفشل 18 عاماً من المفاوضات إلا إقرار بإفلاس السلطة ورموزها، بما هم تجسيد لمشروع سياسي انطلق مع ما بات يعرف بمسار أوسلو المشؤوم.
مشروع تحرص تل أبيب على المحافظة عليه خياراً قائماً بديلاً من خيار المقاومة. وهي لا شك في أنها مستعدة لاتخاذ بعض المبادرات «الإيجابية»، على شاكلة إطلاق بعض الأسرى وتقليص عدد الحواجز، «كرامة» أبو مازن. لكنها تفضل، على الأرجح، مبدأ «التعويم السلبي»، بمعنى الحفاظ على عباس ومشروعه عبر تصفية الخيار البديل: الترجمة العملانية، في هذه الحالة، تكون بالقضاء على «حماسستان» وما تمثله من رمزية. إشارات كثيرة تفيد بأن الاحتلال يسير نحو سيناريو كهذا: المناوشات مع غزة وما رافقها من تهديدات وترويج لتهريب «أسلحة كاسرة للتوازن». عدوان جديد يلوح في الأفق، لا رادع له سوى المعطيات التي تفيد بأن تسليح «حماس» اليوم بات يوازي تسليح حزب الله عشية عدوان تموز.
مهما يكن من أمر، فإن حالة الستاتيكو في الأراضي الفلسطينية تبدو مرشحة للتحول إلى واقع دائم، بغض النظر عن مناورات أبو مازن التي بلغت نهايتها مع إعلان استحالة إجراء انتخابات في المدى المنظور، في ظل غياب اتفاق مصالحة. ولعل ذلك ما دفع بعض المحللين الأميركيين إلى مباشرة التنظير لرؤية جديدة، تكمل رؤية جورج بوش بشأن «حل الدولتين»، ألا وهي «حل الدول الثلاث»: إسرائيل والضفة وغزة.
علاقات أميركية ـــــ إسرائيلية ليست في أفضل حال، وجمود في ملف المفاوضات مع الفلسطينيين، أخلى المكان لأمرين: دخول فرنسي «ودود» على الخط (رغم مناكفات كوشنير)، وإحياء للمسار السوري. في هذا السياق تندرج رسالة نتنياهو إلى الأسد عبر ساركوزي: وقف تهريب السلاح وإلا، ومفاوضات مباشرة وبلا شروط.
كان الرد السوري أسرع من المتوقع. أصلاً الرد على الدعوة إلى التفاوض كان قد صدر قبل أيام، خلال زيارة الأسد إلى تركيا التي دعاها إلى تحسين علاقتها مع إسرائيل من أجل الاحتفاظ بالقدرة على القيام بالوساطة، ما يعني تأكيد رغبة في التفاوض، ولكن عبر أنقرة.
أما الرد على الشق الآخر من الرسالة، فقد جاء في الخطاب المفصلي الذي أعلن فيه الأسد البدء ببناء شرق أوسط جديد جوهره المقاومة. مشروع طموح يرتقي درجات عن الاكتفاء بدعم حركات المقاومة واحتضانها، ويستتبع ثلاثة أمور:
ـــــ ارتقاء في المفهوم، بمعنى أنها ليست مقاومة احتلال فقط، بقدر ما هي مقاومة مشروع إمبريالي متعدد الأوجه والأبعاد، ما الكيان الصهيوني والاحتلال (في فلسطين والعراق) سوى أحد تجلياته. مقاومة تستند إلى المبادئ الحقوقية والقوانين الوضعية والمفاهيم الفلسفية المتعلقة بالحقوق الطبيعية لبني البشر (قد يكون الدين أحد روافدها).
ـــــ ارتقاء في الأهداف، بمعنى إعادة المنطقة إلى أبنائها بكل ما تحمله هذه العبارة من مضامين سيادية واستقلالية (عن المستعمرين الجدد)، في مقدمها العودة إلى حل «الدولة الواحدة».
ـــــ ارتقاء في الأدوات، بمعنى أن المقاومة ليست مقاتلاً وسلاحاً ودعماً لوجستياً وتكتيكاً ودعاية واحتضاناً سياسياً وحسب. هذا الجزء العسكري منها. هي فعل مجتمعي (تتبنّاه الأنظمة وليس العكس)، يطال مختلف أوجه الحياة، بينها الثقافي والتنموي والاقتصادي والتقني؛ مقاومة بالموسيقى والمسرح وأخواتهما. بالصناعة والزراعة. بالتكنولوجيا والمعلومات. بالتنمية البشرية والإدارية. بمكافحة الفساد. بتعميم الأفكار والأنظمة والقوانين العابرة للطوائف والأعراق. بدولة المواطنة لا المزارع. بدولة رعاية هاجسها العدالة الاجتماعية لا مراكمة ثروات الأثرياء. بدولة يتحكم بمفاصلها رجال الفكر لا رجال الأمن...
شرق أوسط جديد لا بد من أن تؤدي فيه كل من إيران وتركيا دوراً مركزياً. الأولى تبني نموذجها منذ عقود، وتعمل الثانية على إعادة صياغته. آن لنا أن نحذو حذوهما.