ضحى شمسأقبلت بسيارتها في صف السرفيسات التي كانت تتوقف لسؤالي عن وجهتي. لمحتها من بعيد مكان السائق، فانتظرت لأستقل سرفيسها. هي سائقة عمومية، قررت، كأخوات سبقنها في مناطق متفرقة، اقتحام هذه المهنة الذكورية بامتياز، من أجل لقمة عيش لم يعد يفيد انتظار رجل البيت وحده لتأمينها. وبما أنها مهنة ذكورية، فأول ما تفعله تلك النسوة، إنكار أنوثتهن خلال «الدوام»، ما يسهل عليهن، حسب ما يعتقدن، العمل في الشارع. والمرأة متهمة عندما تكون في الشارع حتى تثبت العكس. وتتلقى راداراتها تلك المطالبة المضمرة من كتلة غامضة اسمها «الناس»، بأن تثبت أنها ليست هنا بصدد استخدام أنوثتها. لا بل إني أجزم بأن مظهر النساء الخارجي، هو إجابتهن على هذه المطالبة المضمرة، إما سلباً بالاستخفاف ولبس «الجريء»، أو التجاوب والاختفاء، بدرجات متفاوتة، بين طيات القماش دليل البراءة. هكذا، وتلبية لهذه المطالبة «المضمرة»، ودفعاً لما قد يخطر ببال أشخاص مجهولين لا يمتون لنا بصلة، تغطي غالبية السائقات العموميات المسلمات شعورهن بحجاب متفاوت الشرعية، فيما تختار المسيحيات، مثل سيلفيا، وهي سائقة عمومية أخرى أصادفها منذ سنوات على الخط، إهمال نبش شعورهن غير المطلوب دينياً إخفاؤها، بطريقة مهملة لدرجة توحي بأنها من الممكن أن تعمل ليس فقط على الخط، بل حتى في المواقف العمومية كالكولا والدورة ومحطة شارل الحلو للنقل البري، المعروفة بمحطة التسفير، أو «التزفير» كما يحلو لبعض الساخرين تسميتها في إشارة للمستوى اللغوي المتدني المستخدم بين شوفارية الخط المسترزقين هناك من كل الجنسيات العربية.
ومهنة «الشوفرة» ليست وحدها ذكورية، فالشارع اللبناني (والعربي عامة)، يبدو مكاناً للذكور بالمعنى السيئ للكلمة. مكان يباح فيه لواحدهم ما يشاء: تلطيش الفتيات، التكلم بصوت عال، الشتم، البصق على الأرض، أو حتى تلبية «نداء الطبيعة» خلف حائط في الشارع أو حتى أمامه. أما النساء، فمجبرات على المرور بهذه الفسحة العامة كما تمر العارضات على «بوديوم»، أي منصة عرض، كأن الغرض «الحقيقي» من مرورهن يتعلق بإغواء ذكور لا تعرفهن حتى. لذا، ترى الواحدة منا تمشي، حتى ولو كانت تتنزه، مقطبة الجبين عابسة، وكأنها تنفي اتهاماً. فكيف إن كن سائقات عموميات؟
بعد إخفاء الأنوثة، الإشارة الدفاعية الثانية هي إظهار الالتزام الديني، بوسائل سمعية بصرية. وبما أن الحجاب يقع في باب البصري، تماماً كنسخة القرآن الكريم على تابلوه السائقة المسلمة والصليب المعلق بمرآة السائقة المسيحية، فإن الوسائل السمعية هي عادة شرائط كاسيت دينية. هكذا، تعمد سيلفي لتشغيل كاسيت تراتيل دفعاً لأفكار ركاب من نوع الشاب المعطر الذي كان جالساً في المقعد جانبها يتفحصها كأنه يتفرج على التلفزيون، فيما تعمد السائقات المسلمات إلى إسماعنا ما تيسر من تلاوات قرآنية، بمجرد إحساسهن بالخطر، أو مواعظ لدعاة بلهجات خليجية أو مصرية، تدوم وتدوم وتدوم، ولا يخفضن «الصوت»، إلا حين «يزول الخطر» بدخول أنثى أخرى إلى سرفيسهن.
بتلك الأفكار وروحية متعاطفة، صعدت إلى سيارتها. في المقعد الخلفي، جنديان صغيران، وإلى جانب السائقة المحجبة، راكب تتوجه إليه بالحديث تارة وإلى الجنديين في الخلف تارة أخرى، مقطعة حديثها «لحظة شوية»، لتشير بذراعها للسائق خلفها إلى أنها ستنعطف، بدلاً من الإشارة الضوئية، أو تنحني إلى الأمام لتستطيع أن ترى السائق الذي يحجبه عنها الراكب إلى جانبها، والذي كان يحاول أن يزمط بسرفيسه بينها وبين الرصيف «قرّب قرّب.. وك ما تخاف، خللي قلبك قوي، ولو؟ ما رح يصرلها شي، خالص يا زلمي.. روح»، تقول له مشوحة بذراعها.. المفتولة العضل، أكاد أقول. ثم تتمتم ما أن يتجاوزها «يا عين عالزلم!».
كنا عالقين في زحمة ورشة مدخل البربير، وما إن استقامت في صف السيارات، حتى استأنفت حديثاً بدا أنها استهلته قبل صعودي: «أنا محلو؟ كنت قوصتو! هيك قلتلو للدركي. قام قللي شو؟ ما عنا أوامر نقوّص؟» تتقدم متراً فنحاذي عمال ورشة الجسر وقد جلسوا يستريحون تحته. «واحد مخالف، قللو وراقك، يسحب عليه سكين وهوي ما يقدر يرد؟». العمال يتفرسون بالسائقة مبتسمين على طريقة الريفيين عندما يشاهدون «عجائب المدينة». تلمحهم بطرف عينها، فتطلق زموراً عصبياً لحث من هم أمامها على التقدم، مع أن السير واقف! أحد العمال يتفرس بها وهو يتغنى بموال ما، تكبس مجدداً على الزمور، ما يجعل السائق أمامنا يغتاظ ويشير إليها بعصبية بذراعه أن «طيري من فوقي»! «اسم الله عليك» تتمتم، ثم تنظر ناحية العمال، وتكمل حديثها «أنا محلو؟ كنت قوصتو. ما بحب الموت. بس ما معقول يكون ما عندو أمر بالقتل! كيف بدو يعمل النظام؟» ثم تنظر مرة أخرى صوب العمال، قائلة «هيدي ناس ما بتفهم حتى بالصرماية .. بدك تقوّص». تقول الكلمة الأخيرة، مردفة كلامها بالبصق من الشباك، كأي شوفير محترف.